قد تكون الأزمة المالية العالمية والتي اندلعت من أميركا أكبر اقتصاد عالمي عام 2008 قد غيرت مفاهيم عديدة في توجهات النظام المالي العالمي وطريقة التعامل مع المخاطر والتشدد في مراقبة الائتمان إضافة لتغيرات واسعة في طبيعة القطاعات الاقتصادية التي قادت النمو عالمياً إضافة لظهور العملات المشفرة المثيرة للجدل مع زيادة بحصة الاقتصادات الناشئة في الناتج الإجمالي العالمي حيث اهتزت الثقة بالاقتصادات المتقدمة وبكل التصنيفات المميزة التي كانت تتمتع بها من قبل وكالات التصنيف الائتماني لكن تعقيدات الملفات السياسية التي تلت تلك الأزمة أصبحت هي من يؤثر في مسار الاقتصاد العالمي بدايةً من الحرب التجارية بين أميركا والصين وما واجهته الدول المتحالفة مع أميركا منذ عقود في فترة الرئيس ترمب من تقلبات في علاقتها مع الحليف الأكبر الداعم لاستقرارها وحماية أمنها من خلال حلف الناتو ثم كان لجائحة كورونا دور محوري في التأسيس لتغييرات واسعة في موازين القوى اقتصادياً وكادت أن تتحول من أزمة صحية ذات أثر اقتصادي بالغ إلى مواجهات سياسية من خلال محاولة تحميل الصين مسؤولية تفشي الفايروس عالمياً.
لكن نشوب الحرب بين روسيا وأوكرانيا منذ عامين سبب صدمة كبرى للاقتصاد العالمي الذي ما زال تحت تأثير تداعيات كورونا فانقطاع سلاسل الإمداد نتيجة للإقفالات الكبرى في العالم ألهبت أسعار السلع وخدمات النقل والشحن وأدت لنقص بالإنتاج بمختلف الصناعات مما ساهم بارتفاع هائل بالتضخم في العالم إلا أن هذه الحرب كانت كمن يصب الزيت على النار وارتفعت أسعار السلع الغذائية وكذلك الطاقة مجدداً فكانت أوروبا أشد المتأثرين بسبب اعتمادها على الغاز الروسي الرخيص بتكلفة إنتاجه ونقله لهم بعد سلسلة عقوبات ضخمة فرضت على موسكو من قبل الغرب بقيادة أميركا، لكن هذه العقوبات أدت بذات الوقت لتوجه روسي نحو آسيا وإفريقيا وخصوصاً دول مجموعة بريكس لكي تعقد معهم صفقات بيع الغاز والنفط بأسعار جاذبة وكذلك زيادة التعامل بالعملات المحلية بعيداً عن الدولار مما شكل نقطة تحول مهمة أصبحت جديرة بالاهتمام الدولي حول إمكانية تقليص الاعتماد على الدولار الأميركي تدريجياً من مختلف دول العالم حيث زادت الاتفاقيات بين الدول خصوصاً الناشئة والنامية التي تركز على التبادل التجاري بالعملات المحلية أي أن هاجس الخوف من تغيير الدولار عملة التجارة الدولية الأولى بدا يتلاشى حتى لو كان بمسار بطيئ.
ولكن الأزمات السياسية لم تقف عند حدود أوروبا إذ كانت هناك محاولات لإشعال فتيل حرب بين الصين وتايوان بالإضافة للتحركات الاستفزازية للصين من قبل أميركا وحلفائها في منطقتي المحيط الهادي والهندي حتى اندلعت حرب إسرائيل على غزة والتي بدأت تمتد تداعياتها للتأثير على حركة الملاحة في البحر الأحمر مما رفع أسعار الشحن البحري وهو ما يعد عاملاً سلبياً في مكافحة التضخم دولياً فالبنوك المركزية في الاقتصادات الكبرى تتخذ سياسات نقدية متشددة ادت للإضرار على بعض البنوك لديهم وكذلك فاقمت من أزمة الاقتصاد الأوروبي وكذلك اقتصادات دول نامية وناشئة مع ارتفاع أسعار الفائدة والتشدد أيضاً في الإقراض وكذلك بسياسات بعض الدول المالية حيث تقلص الإنفاق خوفاً من زيادات بالاقتراض السيادي ستكون لها تبعات مرهقة على اقتصادات عديدة ولذلك فإن استمرار الخلافات السياسية سيفقد إجراءات مكافحة التضخم تأثيرها ويخفض من جدواها ويضعف القدرة على تحقيق التوازن بين الحفاظ على نمو اقتصادي ومعالجة للتضخم وتبعاته.
لكن هذه التحديات السياسية التي تهيمن تأثيراتها على الاقتصاد العالمي بدأت تفرض ضرورة إيجاد حلول لها خوفاً من فوضى اقتصادية دولية لا يمكن تقدير حجمها أو السيطرة عليها فهذه النزاعات السياسية تضغط على تحقيق مستهدفات السياسات النقدية بلجم التضخم وتؤثر على تدفق الاستثمارات مما سيؤدي لركود بأغلب الاقتصادات عالمياً كما سيقلص الطلب على السلع إذا ما تفاقمت الأحوال الاقتصادية وهو ما سيؤدي لتراجع تدفق الاستثمارات لزيادة الطاقة الإنتاجية خصوصاً للنفط والغاز والمعادن وسيكون لذلك انعكاس سلبي مستقبلاً إذا عاد الطلب للارتفاع ولم يكن هناك معروض كافٍ مما سيرفع الأسعار ويعيد دوامة التضخم من جديد إضافة إلى أن هذه الأوضاع الاقتصادية التي يفترض أنها ستكون غير مستقرة سترفع من مستويات البطالة نتيجة لتقلص نمو الأعمال كما أن العقوبات الغربية على روسيا أعطت مؤشراً سلبياً حول توزيع احتياطات الدول المالية واستثماراتها في الغرب وبينت أهمية تعزيز دور التكتلات الاقتصادية مثل بريكس التي بدأت بتوسيع عضوياتها إضافة لتغيير قواعد التجارة الدولية من حيث التبادل بالعملات المحلية وغير ذلك.
فالمخاطر اليوم كبيرة تتمثل في تراجع الاعتماد على الدولار وهو أمر يقلق أميركا جداً فهو أحد أهم ركائز قوتها العالمية إضافة لتركز النمو بالدول الناشئة وزيادة اعتمادها على بعضها كما أن الانتخابات الأمريكية هذا العام تمثل أيضاً تحدياً كبيراً للديمقراطيين حكام أميركا حيث إن أي تراجع اقتصادي سيعني فوز الجمهوريين بها إضافة إلى أن أوروبا قد لا تستطيع أن تتحمل طويلاً ما يحدث من ارتفاع بأسعار الطاقة ووجود خطر توسع حرب روسيا مع أوكرانيا إضافة إلى فوز ترمب المحتمل بالانتخابات سيعيد فتح ملف تكاليف حلف الناتو وجدواه مما يعني بالضرورة أن التفكير بالتداعيات الاقتصادية سيؤدي لصغط على حكومات الدول الغربية والمتصارعة عموماً أن تتجه للحلول السياسية كي تتجنب عواقب وخيمة على اقتصاداتها ومن أخطرها أن تنفجر فقاعة الديون عالمياً وتعود الأزمة المالية من جديد.
الاقتصاد غالباً سيكون هو السبب لفرض الحلول للملفات السياسية والنزاعات وما مقابلة الرئيس الروسي على منصة إعلامية أمريكية وتوجهه لمخاطبة الجمهور الأمريكي إلا رسالة لإمكانية بداية حوار ينهي حرب روسيا مع أوكرانيا المدعومة غربياً حتى لو كانت هناك أصوات أمريكية تنتقد إجراء المقابلة لكن بالمحصلة هو خاطب الأمريكيين وأوصل رسالته وبين أن باب الحوار مفتوح كما أن الحرب على غزة صعدت بملف أهمية قيام دولة فلسطينية والاعتراف بها من كافة دول العالم التي لم تقم بذلك حتى الآن مع أهمية عودة الاستقرار للشرق الأوسط ونزع فتيل الفوضى التي أرهقته وامتدت تداعياتها لعدة قارات من خلال الهجرات القسرية وحالة الانفلات التي حولت دولاً لفاشلة تمثل عبئاً دولياً كارثياً لابد من إيجاد الحلول لها.
نقلا عن الجزيرة