أصبح كل شيء يحرك الدول هو مصالحها الاقتصادية وميزان التنافس هو ساحة الاقتصاد والسباق نحو القمة بات يعتمد على قطاعات وأنشطة تكنولوجية فالدول الغربية المتقدمة ترى نفسها قد تحولت لعصر مابعد الصناعي وللاقتصاد المعرفي واعتبرت أن معركة الهيمنة الدولية قد حسمت لها بعد تفكك الاتحاد السوفيتي والخروج من عصر المواجهات الأيديولوجية بين الرأسمالية والشيوعية لكن رغم ظاهر هذا التقدم والسيطرة إلا أن الواقع يقول غير ذلك فحجم الديون لديها ضخم جداً بل إن جل الديون العالمية تتركز في أوروبا وأميركا ونمو اقتصاداتها ضعيف والتركيبة السكانية أصبحت تميل إلى ارتفاع في نسبة الأعمار التي تتجاوز الـ 60 عاماً وبدأت تضغط عليهم من ناحية زيادة تكاليف رعايتهم بمقابل تراجع معدل الإنجاب لديهم وهو ما سيؤثر على حجم القوى العاملة والإنتاجية لديهم وكذلك تراجع تأثير الاستهلاك بالناتج المحلي أما الاعتماد على المهاجرين لتعويض نقص العمالة والمستهلكين فأصبح يواجه بالرفض من أحزاب وجماعات عديدة بمجتمعهم خوفاً من التغير الديمغرافي بعد عقود قليلة قادمة.
لكن ما يواجهه العالم من عواصف سياسية أصبحت هي من تثير الأمواج المدمرة في محيط الاقتصاد العالمي وليس التحديات التقليدية من تضخم وبطالة وغير ذلك النابعة من عوامل اقتصادية بل إن الأزمات التي واجهت الاقتصاد العالمي في هذا القرن تحديداً جلها يعود لأسباب سياسية بدايةً من احتلال إفغانستان والعراق اللتين كلفتا خزينة أميركا تسعة تريليونات دولار إضافة للأزمة المالية العالمية التي لو عدنا لجذور أسبابها فإن للوعود الانتخابية للديمقراطيين بالتساهل في دعم تملك المنازل لمن ليس لديهم ملاءة مالية كان وراء الكارثة والسبب نابع من نبض السياسة وليس لأسس اقتصادية وبنهاية المطاف كثير منهم تخلف عن السداد فتساقطت أكبر البنوك الممولة كأحجار الدومينو واضطرت أميركا لضخ ثمانية تريليونات لانتشال اقتصادها من الأزمة وتلت ذلك العديد من التوجهات السياسية التصعيدية بين القوى الكبرى من أهمها فرض الرسوم على صادرات الصين لأميركا بعهد الرئيس السابق ترمب والتي أساس أهدافها عرقلة تقدم نمو الصين اقتصادياً وقربها من تسيد العالم مما يعني أن أميركا ستفقد تدريجياً مكانتها بكل مجال وليس الاقتصاد فقط أما ما بعد كورونا فالأحداث السياسية هي من يسيطر على المشهد الدولي من حبث التأثير على الاقتصاد فحرب روسيا على أوكرانيا أشعلت التضخم بالسلع الغذائية وكذلك الطاقة وهو ما أرهق أوروبا بالإضافة للأثر البالغ على الدول الفقيرة والنامية إضافة للضغط على صناع السياسة النقدية في مواجهة التضخم بالتشدد والأثر على نمو الاقتصاد بدولهم وفي العالم حيث يسود عدم اليقين حول مستقبله مابين نمو ضعيف أو الوقوع في الركود ولم يكاد يستوعب العالم حرب روسيا أوكرانيا حتى بدأت أميركا تستفز الصين بملف تايوان وكأنها تأمل باشغال بكين بحرب تعطل مشروعها التجاري الضخم الحزام والطريق وتدخل اقتصادها بركود وتتيح الفرصة للغرب لفرض عقوبات نوعية تسهم بتحقيق أهدافهم لكن ذلك لم ينجح حتى الآن وذلك بسبب قدرة الصينيين على التعامل مع مثل هذه التوجهات بالحكمة والتأني والتحرك بالوقت والأساليب المناسبة فقد نجحوا باستفزاز روسيا عندما أرادوا أن يضموا أوكرانيا لحلف الناتو وهو ما تعتبره موسكو تهديداً لأمنها القومي وأما الكارثة الأكبر فهو دعمهم للاعتداء الهمجي لإسرائيل على قطاع غزة والقتل الممنهج للمدنيين وتدمير منازلهم وإجبارهم على التهجير مما أشعل حرائق في المنطقة منها تديد الحوثيين للملاحة بالبحر الأحمر وما أعقب ذلك من ارتفاع بأجور الشحن البحري والذي سيؤدي لضغوط تضخمية إذا استمرت هذه الأعمال فكثير من شركات الشحن البحري حولت سفنها لرأس الرجاء الصالح وهي مسافة بعيدة ترفع التكاليف وكذلك تطيل مدة وصول الشحنات وهو ما يعني تعطل بسلاسل الإمداد والذي سيشكل من جديد تحدياً للبنوك المركزية الكبرى بالعالم التي تكافح التصخم ببلدانها.
العالم يشهد تحولات متسارعة وكبيرة تقودها السياسة وأهدافها اقتصادية وهذه اللعبة الكبرى ستغير موازين القوى بالعالم فلا الغرب ضامن لاستمرار هيمنته وإلا لما أشعل أو ساهم في جل هذه الأزمات لولا شعوره بالخطرعلى مستقبله والوهن الاقتصادي الذي أصبح مزمناً في دولهم ولا الدول الصاعدة والتي تطمح لأن تكون قطباً رئيسياً عالمياً ستحقق ذلك بسهولة وليس أمامها خيار إلا الاستمرار للتخلص من الهيمنة الغربية مالياً وتكتولوجياً واقتصادياً وعسكرياً.
نقلا عن الجزيرة