"ولو كنت أعلم الغيب"

21/12/2023 0
د. إبراهيم بن محمود بابللي

ودّع الدكتور عبد الله أسرَتَه وذهب لمطار الرياض للسفر إلى جدة يوم الثلاثاء 8 شوال 1400 هـ على رحلة الخطوط السعودية رقم 163. عند وصوله للمطار، تفاجأ الدكتور أن مقعدَه أُعطِي لغيره لسببٍ غير مفهومٍ وغير مقنعٍ، فانتظر في المطار لعلّهُ يجدُ مقعدا في رحلة لاحقة، ولكنه غادر المطار آيسا بعدما عرف أن كل مقاعدِ الرحلاتِ المتبقية لمدينة جدة ذلك اليوم كانت محجوزة. كانت المفاجأةُ في انتظاره عندما وصلَ بيتَه، والمفاجأةُ الأكبرُ كانت لأهلِه الذين وصلهم خبرُ احتراقِ الطائرةِ التي كان مسافرا عليها، قدَّر الله عليه أن يُعطى مقعَدُهُ لغيره، فأنجاه الله وتُوُفّيَ الذي أخذ مقعدَه في الطائرة التي احترقت على المدرج. "قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله"، بعد حصولي على شهادة الدكتوراة، عدت للوطن سريعا لمرض والدي (رحمه الله) والتحقت بالعمل في جهة بحثية حكومية. وعند التحاقي بالعمل، رسمتُ خارطةَ طريقٍ لمستقبلي الوظيفي مدتها خمسة عشر عامًا، تستهدف تحقيق ثلاثة أهداف رئيسة، كان أولُها ابتكارَ تقنيةٍ وتسجيلَ براءةِ اختراعٍ لها، وتطويرَ نموذجٍ تجريبيٍ أوليٍ للتأكدِ من جدواها التقنية، وبعدها بناءَ نموذجٍ كاملٍ لاختبارها حقليا، ثم تصنيعَها وتسويقَها تجاريا.

لم تكن الجهةُ التي عملت فيها عند عودتي من دراسة الدكتوراة مُمَكِّنَة لهذا الطموح، فعندما سنحت لي الفرصةُ للانضمام إلى فريق دولي من الباحثين والمهندسين في مركز أبحاث تابع لشركة عالمية أنشئ حديثًا، لم أتردد في قبولها. كانت الوظيفةُ الجديدةُ أقلَ من وظيفتي التي تركتُها في المنصب والميزات المالية، لكن ذلك لم يُثَبّط عزيمتي، ووعدت نفسي بأن أدرك ما فقدتُ وأتجاوزَه خلال سنتين من العمل، وتحقق هذا بفضل من الله ثم بالأسهم المجانية التي مُنِحتُها من الشركة مكافأة على عملي وإنجازي, كانت أولُ مهمة تُسنَدُ لي في عملي الجديد تَحَدِّيا طرَحه مديري، أرفق معه إطارا لكيفية التعامل معه. طُلِبَ مني تطويرُ تقنيةٍ حديثةٍ لحل هذا التحدي، والذي كان مشكلة قديمة ومعروفة، ولكن كل الحلول التي طُوِّرَت سابقا لم تُجدِ كثيرا، وكان واضحا أنني إذا استطعت حل هذه المشكلة بنجاح، فسيكون لذلك وقعٌ جَلِيٌ بعيد الأثر على القطاع الذي كنا نعمل فيه, بدأتُ العملَ بتطوير نموذجٍ رياضيٍ يصفُ المشكلةَ ويقترحُ طريقةً للتعاملِ معها. أعجبَ الحلُ الذي وصلت له عن طريق النموذج الرياضي، على بساطته، مديري الذي كان من علماء الرياضيات البارزين، مما أوجد بيننا جوا من الألفة والثقة. قمت بعدها بتطوير نموذجٍ تجريبيٍ مصغّرٍ لدراسة المكونات الرئيسة وكيفية تفاعلها مع بعضها البعض عند تطبيق فكرة الحل المقترح، ثم بنيت جهازا كاملا، بمقياس 10:1 (واحد على عشرة)، لاختبار الحل المقترح في ظروف ومعايير متسقة مع الواقع، فكانت النتيجة نجاحا باهرا.

باستثناء مكوّن إلكتروني واحد قمت باستيراده، حصلت على كافةَ مكوناتِ النموذجِ التجريبي والجهازِ المصغرِ من السوق المحلي، مما نتج عنه خفضُ تكلفةِ العملِ إلى أقلِ من 10% (عشرة بالمائة) من السعرِ المُقَدَّرِ بناءً على المعايير المتعارفِ عليها في الشركة, استغرق العمل على المشروع من بدايته وحتى استضافة ممثلي شركة إقليمية اهتمت بتطبيق الاختراع في إحدى المناطق التابعة لها أقل من ثلاثين شهرا، بما في ذلك النماذج الرياضية والتجريبية، والحصول على براءة اختراع، في حين كان تقدير مديري ورئيسُ المركز أن هذا العمل سيستغرق خمسَ سنوات على الأقل. ونتيجة لما تحقق، حصلت على ترقية ومنحة أسهم من الشركة, ثم جاءنا ما لم نكن نحتسب، واستُهدِفَ المقرُ الإقليميُّ للشركة من قِبَلِ جماعة إرهابية. كنت وقتها في رحلة عمل إلى اليابان وشاهدت صورا تلفزيونية لمبنى المقر الإقليمي، فأدركت أن أمرا ذا بالٍ قد حدث، فاتصلت مستفسرا فعلمتُ أن المقر استهدفته عصابة من الإرهابيين، ونتج عن ذلك وفياتٌ عدة, كَنَفَ الغموضُ الوضعَ في المركز، ولم نعرف ما إذا كنا سنواصل العمل في مركز الأبحاث أو أن الشركة ستنقلنا إلى مكان آخر. استغرقت المداولات بين الشركة وعملائها الإقليميين الرئيسين شهرين للاتفاق على الخطوات المقبلة، ولم نُطْلَعْ على نتائج الاتفاق. ولكننا علمنا لاحقًا أن الشركة قررت تقليص الأنشطة في مركز الأبحاث، مما جعله – عمليًا – مركز اتصال بين مراكز البحث والتطوير التابعة للشركة خارج المملكة وبين عملائنا الإقليميين، بالإضافة إلى تكليفنا بمهام تسويقية. وكان واضحا أن ما قدمنا للعمل عليه، وهو البحث والتطوير، لم يعد متاحا.

كان المشروعُ الذي أكملتُ العملَ عليه قبل رحلتي إلى اليابان فريدًا من نوعه في الشركة، من حيث عدم وجود مجموعات أخرى تعمل عليه في مراكز البحث والتطوير غيرنا، مما أوصلني لطريق مسدودة تماما. لم يتبق ما يمكن إضافته على المشروع في المختبر، وكانت الخطوة التالية هي تطوير نموذج هندسي حقلي لاختباره في ظروف ميدانية حقيقية، ولكن لم تكن هناك ميزانية لذلك، فقد أوقفت الشركة كل مخصصات البحث والتطوير لمركزنا، عدا الميزانية التشغيلية. حاولت وحاولت، وبذلت وسعي لإيجاد حل، ولكن دون جدوى. طلبت الانتقال إلى أحد مراكز الأبحاث والتطوير التابعة للشركة خارج المملكة، ولكن لم يُوافق على طلبي، فقررت المغادرة. بحثت عن عمل، أي عمل. كنت منفتحا على العمل الأكاديمي أو البحثي أو الصناعي، داخل المملكة أو خارجها، فأرسلت مائتي (200) طلب عمل، بعضها استجابة لإعلانات عن وظائف وكثير منها لم تكن، ولكن دون جدوى. وأثناء بحثي عن عمل تلك الفترة، كان مديري السابق يدعوني للانضمام لفريقه في مهمته الجديدة والعمل معه على تطوير الاستراتيجية الوطنية التي كان يقودها، لكنني اعتذرت عن عدم القبول. لم أكن راغبا العودة إلى العمل الحكومي، وكانت عائلتي سعيدة في المدينة التي انتقلنا لها ولم تعد ترغب العودة إلى صَخَبِ وجَلَبِ مدينة الرياض.

استمر هذا قرابة السنوات الثلاث. أصرت الشركة على موقفها، ولم يُسمح لي بالانتقال إلى عمل آخر خارج المملكة، ولم أجد عملا خارجها. علمت بعد سنوات أنهم كانوا يرونني الأقدر على الحديث مع كبار الشخصيات الزائرين من الشركات الرئيسة المحلية والإقليمية التي كانت الشركة تعمل معها. كنت أمثِّلُ أجْوَدَ ما لدى المركز من نجاحات، خاصة عندما أتحدثُ عن المشروعِ الذي عملتُ عليه وأشرحُ تفاصيلَه مستخدما الجهازَ الذي طورتُه. لم أكن أعلم وقتها أنني أضحيتُ من أهم عناصر التواصل والعلاقات العامة لمركز الأبحاث وللشركة في المنطقة: عالمٌ سعوديٌ وجد حلا لمشكلة لم تَثْنِ العِنان قبله لأحد، وأثبت ذلك من خلال جهاز تجريبي بناه في فترة قياسية وبميزانية قياسية. عالمٌ، ولكنه يحسن الحديث والشرح، بلُغاتٍ ثلاث. كنتُ كل هذا، ولكنني لم أكن أعرف. في واقع الأمر، كنت للشركة والمركز مُهَرِّجَ السلطان, ما لم أدركه حينها هو أن الشركة اختارت إبقائي في المركز، كما يُحتَفَظُ بطائر نادرٍ غِرّيدٍ في قفص، للترفيه عن الضيوف. لو فهمت هذا، ربما كنت سأتقبل الوضع حينا من الزمن، مؤملا في يُسرٍ مع ذلك العسر. ولكن مضت سنين ثلاثٌ عجاف، ولم أجد مخرجا غير قبول عرض الانضمام إلى رئيسي السابق، فقبلته على مضض, وكان أحد أفضل القرارات التي اتخذتها في حياتي، على الصعيدين الشخصي والمهني, يذكرني ما حدث بمقولة صديقي عبد العزيز أبي فهد: إن العطايا تأتي أحيانا على شكل رزايا، فلِلّه الحمد من قبل ومن بعد.

======================

الدروس المستفادة:

· ثق بالله. قد يتحول الألم الذي تعيشه بسبب مواقف تمر بها، ظاهرها فيه العذاب، إلى دورة تحضيرية لمهمتك التالية، يكون فيها الرحمة والبركة. "وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم".

· حلل بعقلانية ما تمرُّ به، واستشر من تثِقُ بخبرتِهِم. ما يبدو غير منطقي قد يكون له سبب منطقي قد لا تفهمه في البداية.

· عندما تقرعُ الفرصةُ البابَ، افتح لها، فإن لم تفعل فقد لا تعود أبدًا.

 

 

 

 

 

خاص_الفابيتا