معالجة تضخم أسعار السكن شراء وتأجيرا

21/12/2023 1
عبد الحميد العمري

تركز أغلب الحديث في المقال السابق -السيطرة على تضخم أسعار السكن- على إيجار السكن الذي وصل إجمالي نسبة ارتفاعه منذ بدأ الارتفاع قبل 21 شهرا مضت إلى 16.9 في المائة، ووصلت نسبة ارتفاعه في المدن الرئيسة إلى مستويات قياسية، كمدينة الرياض التي وصلت نسبة الارتفاع فيها إلى 30.7 في المائة، وفي مدينة جدة وصلت نسبة الارتفاع إلى 34.3 في المائة، وكيف أن دائرة التضخم في إيجار السكن بدأت تمتد في الأشهر الأخيرة إلى مدن أخرى، كمدينة بريدة -ارتفاع الإيجار فيها بـ19.5 في المائة-، وفي مدينة أبها -ارتفاع الإيجار فيها بـ16.9 في المائة-، وفي ظل الظروف الراهنة وثبات المتغيرات والعوامل التي دفعت بارتفاع الإيجار، فقد تستمر تلك الارتفاعات الراهنة، وقد تنضم إليها مدن أخرى مستقبلا، ما يقتضي بدوره إقرار تنظيم لسوق الإيجارات، الذي يستهدف أن يعزز استقرار الإيجارات على اختلاف أنواعها، ويسهم في توطيد استقرارها في القطاع العقاري، وبما يحافظ على جاذبية السوق في الوقت ذاته، بما سيؤدي إلى حماية الاقتصاد الوطني عموما، والمجتمع والقطاع الخاص خصوصا، من الارتفاعات الحادة التي قد تطرأ للإيجارات لأي أسباب عرضية أو مفاجئة.

وإذا كان الحديث في المقال السابق قد تركز على جانب ارتفاع إيجار السكن، وما له من آثار عكسية في استقرار مستويات معيشة المجتمع، ورفع تكاليف الإنتاج على منشآت القطاع الخاص، فلا يعني ذلك أن المشكلة تقف عند تلك الحدود، ذلك أنها قد سبقها بعدة أعوام تضخم أسعار الأراضي والمساكن محليا، وبقليل من البحث في بيانات وزارة العدل، والبنك المركزي السعودي "ساما" والهيئة العامة للإحصاء، سيتأكد للقارئ الكريم أن المنشأ الأول للارتفاع المتسارع للإيجارات، قد انطلق في الأصل من التضخم السعري الذي عم أسعار الأراضي والمساكن بدءا من 2019 حتى تاريخه، ولكي ينجح "تنظيم سوق الإيجارات"، فلا بد من تمهيد البيئة العقارية المحلية عموما بحلول تقضي على تضخم أسعار الأراضي والعقارات، وليس هذا فقط لأجل المساعدة على تحقق أهداف تنظيم سوق الإيجارات، رغم أهمية تحققها كما هو مأمول، إنما لمعالجة أوسع وأشمل لأساس تلك التحديات التنموية الكامنة في السوق العقارية المحلية، وما نشأ عنها من تضخم متصاعد للأسعار، ليس ارتفاع إيجار السكن إلا أحد آثارها.

سيكون من الصعوبة بمكان -إن لم يكن مستحيلا- أن تتم السيطرة على تضخم إيجار السكن، ما لم تتم السيطرة على منشئه الأساس في السوق العقارية المحلية. أخيرا قامت صحيفة "الاقتصادية" عبر حسابها في منصة X بفتح مساحة متميزة، تناولت فيها أبرز الأسباب التي أدت إلى تضخم أسعار السكن في المملكة، وانتهى تحليلها إلى: أولا، إن السوق شهدت تحفيزا كبيرا لـ"الطلب" خلال 2019-2023 بضخ 587 مليار ريال قروضا عقارية للأفراد، مقابل ضعف تحفيز "العرض" الذي قابله بأقل من قوة الطلب المتنامية المدعومة بالقروض، ما أدى إلى تسارع وتيرة تضخم أسعار الأراضي والعقارات. ثانيا، إن الرسوم على الأراضي البيضاء جاءت أبطأ من سرعة تلك المتغيرات، خاصة من مطلع 2019 وما تلاها من أعوام، وإن متحصلات الرسوم جاءت أقل تكلفة على ملاك الأراضي، مقارنة بالنمو القياسي لأسعارها السوقية، ما أدى إلى تمسك ملاكها بها لفترة أطول، وتحمل أي رسوم مقررة، خاصة أن آلية تحديد تلك الرسوم لا تأخذ في حسبانها الأسعار السوقية وارتفاعاتها. حيث أظهرت مقارنة متحصلات رسوم الأراضي "تحفيز العرض"، وحجم القروض العقارية الجديدة "تحفيز الطلب" منذ منتصف 2017 حتى العام الجاري، أن المتحصلات لم تتجاوز 1.0 في المائة من إجمالي القروض العقارية (نحو 630 مليار ريال)، بما يؤكد بنسبة كبيرة دقة استنتاجات مساحة الاقتصادية المشار إليها.

إن الآثار العكسية تنمويا واقتصاديا وماليا لتضخم أسعار السكن تحديدا، وأسعار الأراضي والعقارات عامة، تتجاوز بكثير ما سبقت الإشارة إليه في المقال السابق "السيطرة على تضخم أسعار السكن"، ولعل جزءا كبيرا من تلك الآثار العكسية قد لمسه الاقتصاد والمجتمع والقطاع الخاص طوال الأعوام الأخيرة، وأصبح من الأهمية بمكان العمل المتكامل على معالجة الأسباب الرئيسة، التي أدت إلى نشوء واستمرار هذا التحدي في السوق العقارية المحلية "تضخم الأسعار"، وهو الأمر الذي يعد في متناول الأجهزة الحكومية ذات العلاقة، وسبق إقرار الحلول والأدوات اللازمة لمعالجته، بدءا من نظام الرسوم على الأراضي، الذي سيكون أكثر كفاءة متى تم تطوير آلية حساب الرسوم بربطها مباشرة بالأسعار السوقية الراهنة، وهو ما سبق الحديث حوله كثيرا في مقالات سابقة قبل التضخم الراهن للأسعار.

كما يمتلك البنك المركزي السعودي كثيرا من الأدوات المفيدة جدا في مواجهة التضخم الراهن لأسعار العقارات، يأتي في مقدمتها العمل على تطوير وتحديث "مبادئ التمويل المسؤول للأفراد 2018"، وأن يقوم بخفض نسب الاستقطاع الشهري إلى ما دون 40 في المائة، وبنسب استقطاع أدنى متدرجة لذوي الأجور الأدنى، وهو ما سبق لعديد من المسؤولين الحديث عنه في مطلع العام الجاري في مناسبات عدة، وضرورة اتخاذه تدابير للحد من التضخم الراهن عقاريا. إنها الحلول المناسبة والمتوافرة، التي سيؤدي إقرارها إلى تحقق كثير من النتائج الإيجابية على هذا المسار، وسيكون لها انعكاسات إيجابية بالغة الأهمية على الأداء الاقتصادي، خاصة في ظل التوقعات غير المواتية للاقتصاد العالمي، وما قد ينتج عنها على الاقتصاد المحلي حسبما ذكره البيان الأخير للميزانية العامة للدولة 2024، حيث ستشكل تلك الانعكاسات الإيجابية دعما رئيسا للقطاع الإنتاجي المحلي "القطاع الخاص"، وسيكون لها نتائج إيجابية على الاستقرار المعيشي لأفراد المجتمع، وبما يصب في مجمله بمزيد من الدعم والتحفيز لأداء الاقتصاد الوطني في مواجهة المتغيرات العالمية المتوقعة خلال 2024-2026.

 

 

 

 

نقلا عن الاقتصادية