إخرس

13/12/2023 4
د. إبراهيم بن محمود بابللي

"وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا"، لأكتب هذه السطور، كان عليّ الوصول إلى عمقٍ في الذات تعوّدتُ تركَهُ وشأنه، لأزيح الغبار عن ذكرى ليست عزيزة عليّ بل أليمة. ذكرى لأسوء موقفٍ مرّ بي في حياتي العملية، امتلأت غرفة الاجتماعات عن بكرة أبيها بممثلي الجهات التي كانت تناقش تفاصيل استراتيجية وطنية كنا نعمل عليها. وتبعا لنسق العمل الحكومي وقتها، كان ينبغي على الخلف إقناع السلف بجودة وجدوى الأفكار والمقترحات الجديدة. لم يكن الهدف من الاجتماع يومها الوصول إلى توصية محددة، بل مشاركة التفاصيل مع ممثلي الكيانات المختلفة والاستماع إلى مرئياتهم حول مزايا هذه الاستراتيجية من عدمها، وفي ذلك الاجتماع، كان التركيز على تقنية مقترحة لم تكن واسعة الانتشار على مستوى العالم، لأسباب عدّة. لكننا اخترناها بعد دراسة مستفيضة، مقتنعين بإمكاناتها وما رأينا أنها ستقدمه من نفع مستقبلي، وكنّا نأمل أن تكون المملكةُ السباقةَ في ريادة هذه التقنية. وكنت المتحدث الرسمي للكيان الذي أعمل فيه، ولأنني سبق وأن قدمت العرض بتفاصيله مرات كثيرة ولجهات مختلفة داخل المملكة وخارجها، فلم أتوقع أن الصعوبات والتحديات التي تصاحب مثل هذه الاجتماعات ستؤثّر فيَّ، وكم كنت مخطئا في توقعي.

اتضح عند بدء الحوار، أثناء تقديمي للاستراتيجية المقترحة، تباين أهداف الاجتماع للمجتمعين. للطرف المضيف الذي كنت أمثّلُه، والذي أسميْتُهُ بالخلف آنفا، كان الهدف تقديم استراتيجية طموحة وخطة تنفيذ عقلانية. أما بالنسبة للجهة التي كانت تتصدر السلف، فاتضح أن الهدف كان إسقاط الإستراتيجية، باعتماد تكتيك الهجوم على مكونات الإستراتيجية، واحدة تلو الأخرى بعد عزلها عن المكونات الأخرى، ثم التشكيك في صلاحية كل مكون بشكل انتقائي، مع الاستعانة بمجموعة من الخبراء المستعدّين لترديد الرأي المطلوب منهم، بالتأييد أو الإنكار، كل في اختصاصه. أخيرًا، كان هناك ممثلو كيانات أخرى أتَوْا للاستماع فقط دون المشاركة في الحوار، ومن ثم رفع التقارير لمرجِعِهِمْ.

أصبح النقاش في النهاية غير مثمر، وأصابني القلق. اعتمد أحد الخبراء الحاضرين من الجهة الوحيدة التي تصدرت للنقاش، منهجية الحَطّ من خصائص التقنية التي كنا نناقشها باستخدام حُجَجٍ يراها السامع غير الخبير وجيهة. أما إذا كان السامِعُ ذا خبرة نظرية وعملية، فيسهل عليه وضعها في سياقها المنطقي، ومن ثم الرد عليها ودحضها. كان هذا هو مصدر قلقي، لأن معظم ممثلي الكيانات الحاضرة في الاجتماع، والتي ستؤثر آراؤها في النهاية لصالح أو ضد المصادقة على الاستراتيجية على المستوى الوطني، لم يكونوا من أصحاب الاختصاص وبالكاد يستطيعون متابعة النقاش حول إيجابيات وتحديات هذه التقنية، خاصة في السياق الوطني الذي تم اقتراحه، لم تنجح محاولاتي في جعل الحضور يتفاعل ويطرح الأسئلة. التعليقات الوحيدة التي طرحت كانت من الخبير نفسه، معيدا ومكررا النقاط نفسها، رافضا قبول أي تفسير أو بيانات أو تحليل أو دليل أقدِّمُه.

وبعد أخذ كثير وَرَدّ، وذهابٍ في الحوار وجيئة، وحوارٍ لم يعد يهتم له من الحضور سوانا، تفاجأت بادعاء غير صحيح قدمه أحد المشاركين من نفس المجموعة التي ينتمي إليها الخبير. تذكرت عندئذٍ قول عمرو بن العاص رضي الله عنه: "والله إنك لتعلم أنِّي أعلم أنك تكذب"، ففقدت أعصابي وقلت للخبير عندما بدأ الحديث من جديد: اخرس، فلزم الصمت، واصلنا الاجتماع بعدها قليلا، لكن دون جدوى. لم يرغب أحدٌ في مواصلة الحديث، وأحسب أن تجاوزي لحدود الأدب يومها كان له أثر سلبي على النقاش المستمر حول الإستراتيجية.

========================

الدروس المستفادة:

· لا ترفع صوتك، والزم الأدب في الحديث، بغض النظر عن الموقف الذي تجد نفسك فيه. "فإن الله تعالى ليُبغِضُ الفاحش البذيء."

· اعتذر للشخص الذي أسأت له.

· التحق بدورات تدريبية في الحوار والمفاوضات قبل الانخراط في الحوار والمفاوضات.

· استعد جيدا للاجتماعات الهامة، ووَزِّعِ الأدوار والمهام بين أعضاء فريقك، بحيث عندما تجد نفسك في مأزق، يلتقط الحوار أحد زملائك وتحصل أنت على راحة تسترد فيها أنفاسك.

 

 

 

 

خاص_الفابيتا