مع كل إعلان للميزانية تزيد بين الناس النقاشات في موضوع المقال. لكن هناك مشكلة، تتلخص في فهم المقصود بالمسميات. ولذا من الأسس فهم الكلام على وجهه قبل النقاش، مسألة أصولية. وهنا مثال: ناقشني أحدهم في التعريف أو المغزى الجامع لعلم الاقتصاد، بأن الإسلام قد وضع ضوابط وأحكاما في استخدام الموارد وكيفية توزيعها وتخصيصها، وهذه الضوابط، في فهمه، موجودة في الاقتصاد الإسلامي، بما يغنينا عما عند الآخرين. لقد التبس على قائل هذا الكلام المعنى المقصود بتوزيع وتخصيص الموارد في علم الاقتصاد، وهناك أكثر من سبب في وجود هذا الالتباس، لفهم ما يقصد في علم الاقتصاد، يجدر بنا النظر أولا في الترجمة ومدى مناسبتها. والمقصود الترجمة من اللغة الإنجليزية. كلمة توزيع جاءت ترجمة للكلمة allocation. لكن هناك كلمة أخرى وهي distribution، ترجمت أيضا إلى الكلمة نفسها توزيع، جاء عن الأولى في قاموس أكسفورد المشهور Oxford Advanced Learner's Dictionary
an amount of money، space، etc. that is given for a particular purpose، such
the allocation of food to those who need it most
ومجمل المعنى واضح، وهو إعطاء مورد كالمال لغرض ما، بينما تعطي كلمة distribution معنى له علاقة بالعدالة، فحسب قاموس أكسفورد، أول معانيها
the way that sth is shared or exists over a particular area or among a particular group of people: the unfair distribution of wealth.
وربما كان مصدر الإشكال أن التعريف لا يفيد شيئا في التوضيح للقارئ بمنهجية البحث الاقتصادي، ولا في طريقة علم الاقتصاد في تناول المسألة ومناقشتها وتحليلها، أو ما يسمى بالإنجليزية economic approach. فهم المقصود بالتوزيع allocation متعلق بفهم منهج البحث في علم الاقتصاد، وهو موضوع طويل يستحق مزيد تحقيق وبحث. وسأتعرض إليه في هذا المقال باختصار، يهتم علم الاقتصاد economics بتوصيف وفهم وتفسير السلوك الاقتصادي للإنسان، وطبيعة وتركيب الأمور والوقائع الاقتصادية (الناشئة من التعاملات بين الناس) والتوصل إلى النظريات المفسرة لذلك السلوك، أو كيفية حدوث تلك المسائل والأحداث. ومن هذه المسائل والوقائع الأسعار والأجور والتكاليف والنمو الاقتصادي والعطالة والتضخم. والتوصيف والفهم والتفسير تعبر عن جانب تقريري من علم الاقتصاد، أو ما يسمى positive economics، والمنهج المستخدم فيه هو ما يعتمد تحصيل العلم به على التجربة scientific قدر الإمكان. وهناك الجانب الآخر وهو normative economics ويعنى بالسياسات أو التطبيقات الاقتصادية، التي تبنى كليا أو جزئيا على الجانب التقريري أي الرغبات.
فهم كيف يعمل الاقتصاد خطوة أساسية للتعرف على تفسير توزيع الموارد، أما الهدف فالمساعدة للتعرف على أقصى منفعة ناشئة من استخدام هذه الموارد. وهناك عدد كبير من طرق توزيع الموارد، ولكل تبعات تدرس في علم الاقتصاد، حتى لو كانت كل الطرق مقبولة لذاتها شرعا و/أو قانونا. وتبعا لهذا الهدف، طور علماء الاقتصاد عددا كبيرا من أدوات التحليل الاقتصادي، لذا من المهم جدا أن يعرف أن ذلك التعريف أو المغزى الجامع لعلم الاقتصاد لا يقصد ولا يعني أساسا الأحكام الشرعية (أو القانونية) في الشؤون المالية والاقتصادية، كأحكام الزكاة والخراج والضرائب والتجارة وأحكام التملك والميراث وغيرها. ولا شك أن للأحكام الشرعية (أو القانونية أو القيم السائدة) تأثيرا في توزيع الموارد بالمعنى المقصود في علم الاقتصاد، لكن دراسة علم الاقتصاد لا تحتاج إلى عمق فقهي (أو قانوني)، بل تكفي معرفة مبادئ بسيطة عند مناقشة كفاءة تخصيص أو توزيع مورد ما (بالمعنى الاقتصادي)، أو عدد ساعات العمل الأسبوعية المحددة بالقانون عند مناقشة وتحليل سوق العمل أو تأثير توزيع موارد العمل ورأس المال في الإنتاج. ونهج معرفة المبادئ الفقهية ذات الصلة بالتخصص ليس مقصورا على علم الاقتصاد. على سبيل المثال، الطب، فالطبيب مثلا، ينبغي له أن يعرف أبسط المبادئ الشرعية و(القانونية) ذات العلاقة بمهنته، وهكذا. لكن هذا لا يعني أنه مطلوب منه التعمق في هذه المعرفة.
لا شك في وجود قوانين تحكم النشاط الاقتصادي، ومن ثم تؤثر في تخصيص/توزيع الموارد، لكن ذلك لا يغني عن دراسة هذه الأمور من جانب غير قانوني. هل نتوهم أن دول العالم التي يدرس فيها القانون ويدرس فيها علم الاقتصاد، أنها لا تفهم الفرق بينهما، أو لا تفهم أن علم الاقتصاد غير القانون؟، سأمثل بمثال من سورة يوسف -عليه السلام-، خلاصته إعطاء نصيحة بعد تأويل رؤيا. ولعله يبعد سوء الفهم في المقصود من توزيع/تخصيص الموارد، قال سبحانه: (قال الملك إني أرىٰ سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون) إلخ الآيات، لفت انتباهي استخدام العلامة الشيخ السعدي -رحمه الله- في تفسيره تيسير الكريم الرحمن، الكلمات الثلاث "عليم بكيفية التدبير"، وهذا بتعبيرنا الحديث يعني حسن التصرف في توزيع الموارد. وهذه المهارات أولا، لا تتعلم من الفقه أو القانون. وثانيا، لا يلزم حصول اتفاق على حدود ما يعد حسن تصرف. ولا يخفى أنه لم تذكر في سورة يوسف أهم المعايير والاعتبارات المؤثرة في تطبيق نصيحة يوسف.
مع تعقد الظروف والأحوال الاقتصادية للمجتمعات والأفراد مقارنة بالقرون السابقة، صار توزيع الموارد في العصر الحاضر خاضعا لاعتبارات ومعايير علمية اقتصادية كثيرة حتى لو كانت كلها مقبولة شرعا وقانونا. ولا شك أن الفقه أو القانون يعطي مبادئ مجملة كـ "العدل"، مفروضة مراعاتها في شؤون الحياة كلها من اقتصادية وتعليمية وصحية وبلدية... إلخ، لكن مراعاة هذه المبادئ لا تغني عن النظر إلى اعتبارات ومعايير أخرى.
نقلا عن الاقتصادية
الأديان ما تكلموا عن البورصة والأسهم لا تحشر الإسلام بأشياء لا يعرفها
وتراني معجب بمقالاتك
مقالاتك ممتازة على فكرة
الدين جاء داعياً إلى أخلاق ومبادئ شاملة ، مثل مبدأ العدل ومبدأ الرحمة ومبدأ الأمانة ...الخ ، وجاء كذلك بتفاصيل في معاملات بعينها ، مثل تفاصيل المعاملات المالية من البيع والإجارة و الرهن والاستصناع وغير هذه الكثير. ولهذا يستخدم مايسمى بـ "التكييف" و "التأصيل" لمعرفة كيف ولماذا نتعامل في سوق ما (مثلاً سوق المال والبورصة) تعاملاً في حدود المباح والحلال في شريعة الدين. أما شأن الترجمة فقول الدكتور السلطان فيه سليم ويتّسق مع مايعرفه مختصو الترجمة من التعدد في المعاني والترجمات ، وماينتج عنه من اللبس. والله جل جلاله أعلم وأحكم.