معلوم أن رأس المال يبحث دائما عن العائد الأعلى بأدنى المخاطر المحتملة، وذلك هو ديدن الأسواق على اختلاف أنواعها، مع الأخذ في الحسبان تفاصيل أكثر تعقيدا، تتدخل بدورها في حيثيات القرار المزمع اتخاذه من قبل المستثمر (صاحب رأس المال)، كل هذا فيما يتعلق بالمستثمر. أما بالنسبة للاقتصاد الكلي الذي يمثل الوعاء الأكبر للأسواق والمستثمرين بصورة أوسع، فالاعتبارات بكل تأكيد أبعد بكثير من مجرد البحث عن عائد ما، أو التحوط تجاه مخاطر محتملة، على الرغم من أهمية العاملين وكونهما ضمن اعتبارات واضعي السياسات الاقتصادية الكلية، إلا أن الأولوية القصوى بالنسبة إليهم في هذا السياق، تقوم على توفير أسس وركائز الاستقرار والموثوقية والشفافية والنزاهة والقانون الذي يكفل حماية حقوق الأطراف كافة، إضافة إلى سهولة الإجراءات وتدني التكاليف منذ التأسيس مرورا بإدارة الاستثمار وصولا إلى استمراريته ما شاء الله له أن يدوم.
كل ما تقدم كان على المستوى الكلي لبيئة الاستثمار، كمتطلبات أساسية لا بد من توافرها في أي بيئة استثمارية تستهدف اجتذاب الثروات محليا أو من الخارج نحو الاستثمار في الفرص القائمة في الاقتصاد، تأتي بعد ذلك أولويات توزيع وتنويع تلك الاستثمارات وفق احتياجات الاقتصاد الكلي، التي تبحث عن أفضل مساهمة لتمركز تلك الاستثمارات على مستوى النمو الاقتصادي المستدام، وعلى مستوى قدرتها على إيجاد أكبر قدر من فرص العمل للموارد البشرية المواطنة، والفرص الأخرى الممكن تولدها في الاقتصاد على المستويات كافة، التي من أهمها إيجاد فرص استثمارية جديدة، ونشاطات جديدة يؤمل أن يسهم وجودها في زيادة غلة الاقتصاد الكلي من مصادر النمو المستدام، ومن فرص العمل المجدية، وكل هذا بالتأكيد سيأتي نتيجة لنجاح الاستثمارات الأسبق، ما دفع إلى زيادة طموحات ملاكها نحو التوسع والنمو والمساهمة بمعدلات أكبر في تنشيط الأداء الاقتصادي، وتعزيز أسس استقراره بصورة مستدامة، وتشكل منظومة من الاستثمارات المحركة للنمو الاقتصادي وازدهار الأسواق، وتحقق ديناميكية عالية فيما بينها يعزز نمو إحداها الأخرى، ومع صعودها وازدهارها واتساعها وزيادة مساهمتها في النمو الاقتصادي وإيجاد الوظائف، سيحتفظ الاقتصاد الكلي بوتيرة عالية من التقدم والازدهار والتنوع في قاعدته الإنتاجية، وانفتاح مزيد من الآفاق الاستثمارية الأكثر تقدما لم يكن بالإمكان الوصول إليها لولا نجاح البدايات ونضوج التجربة وزيادة تراكم رؤوس الأموال بصورة أكبر.
لقد تركز الحديث أعلاه على (الاقتصاد المنتج)، وهو المجال الأهم الذي انصبت على تحفيزه وتطويره وتسريع خطوات نموه كل مبادرات وبرامج رؤية المملكة 2030، ويضطلع الجميع بحمد الله بالمشاركة في تحققها، والتقدم بمراحلها الطموحة نحو مستهدفاتها النهائية، تأهبا لمراحل أخرى أعلى طموحا وأبعد أهدافا دون كلل أو ملل. وكما أنه يوجد مخاطر محتملة قد تعترض طريق رأس المال (الاستثمار) كما تمت الإشارة إليه في مقدمة المقال، فإنها توجد أيضا في طريق تحفيز قدرات الاقتصاد المنتج، والاستثمار الكلي في تعزيزه وتنويعه بدرجة أكبر. وهي مخاطر عديدة، منها الخارجي كالأوضاع التي يمر بها الاقتصاد العالمي، وما قد يطرأ عليه من أزمات اقتصادية ومالية وتجارية، أو حتى توترات جيوسياسية، وأمثلة ذلك ليست بالبعيدة عن المشهد العالمي، بدءا من الجائحة العالمية كوفيد - 19 مرورا بالصدمة التضخمية الأكبر منذ مطلع الثمانينيات الميلادية وما ترتب عليها من سياسات نقدية متشددة، وصولا إلى الاضطرابات الجيوسياسية في شرق أوروبا ومنطقة الشرق الأوسط.
ومن تلك المخاطر ما قد يكون داخليا، التي تولت مبادرات وبرامج رؤية المملكة 2030 معالجتها من الجذور منذ اليوم الأول لبدء تنفيذها، كان من أبرزها تطوير البيئة التنظيمية وتحديثها في جوانب منها، وفي جوانب أخرى إقرار تنظيمات جديدة وحديثة اقتضتها المرحلة المتقدمة التي وصل إليها الاقتصاد الوطني، عدا ما نجحت بامتياز فيه رؤية المملكة 2030 على مستوى تحقيق التكامل بين جهود مختلف الأجهزة والجهات المشاركة في القطاعين العام والخاص، تأكدت مؤشرات نجاحه في التقدم المذهل الذي وصلت إليه تطبيقات الحكومة الإلكترونية، وأثبته عن استحقاق التعامل عالي الكفاءة مع تداعيات الجائحة العالمية لكوفيد - 19، وهو ما حظي بكثير من الشهادات الدولية المستحقة بحمد الله.
رغم كل ما تقدم من نجاحات متميزة، إلا أنه لا يزال هناك بعض الأمور التي تتطلب حلولا وتكمن في استمرار "المضاربات" بالأموال في عديد من الأصول أو السلع، وهو ما يطلق عليه "الجزء من الاقتصاد غير المنتج"، يأتي على رأسها وأكبرها المضاربات على الأراضي، التي أدى وجودها إلى اجتذاب مزيد من الأموال والثروات الطائلة من سيولة الاقتصاد، وجاء ذلك على حساب فرص استثمارية واعدة للاقتصاد كانت أولى بكل تأكيد بتلك الأموال والثروات. ولم يقف أثرها العكسي عند هذا الحد فحسب، بل امتد إلى زيادة تضخم أسعار الأراضي ورفع تكلفتها على الاستثمارات "الاقتصاد المنتج"، ووصل في عديد من الحالات إلى التسبب في توقف تلك الاستثمارات وعدم اكتمالها، ما حرم بدوره الاقتصاد الكلي من تدفقاتها وتحولها إلى داعم ومساهم فاعل في النمو وفي التنوع الإنتاجي وعلى مستوى زيادة فرص العمل، هذا عدا آثارها العكسية على الاستثمارات القائمة، وما تسببت فيه برفع تكلفة توسع نشاطاتها، أو حتى من خلال الآثار غير المباشرة التي ترتبت عليها الارتفاعات القياسية لأسعار الأراضي في مراحل تالية، ظهرت من خلال ارتفاع تكلفة الإيجارات على مختلف المنشآت الاستثمارية في القطاع الخاص.
يتركز الحديث أعلاه فقط على الآثار العكسية للمضاربات على الأراضي على القطاعات الإنتاجية، الذي يتطلب لأهميته استكمال الحديث عنه بتوسع أكبر في الجزء الثاني لهذا المقال، والبحث في الحلول والمقترحات الممكنة للحد منها، حماية لمقدرات الاقتصاد الوطني وبيئة الاستثمار المحلية.. يتبع.
نقلا عن الاقتصادية