مركز التفتيش والرقابة .. تحقق الإيرادات الحكومية

30/10/2023 2
د. محمد آل عباس

صدرت موافقة مجلس الوزراء على تأسيس المركز الوطني للتفتيش والرقابة أخيرا، الذي يهدف إلى تنسيق أعمال التفتيش والرقابة بين الجهات الحكومية، سيعمل المركز بالتعاون مع الجهات الحكومية المعنية على وضع خطة لتوحيد أعمال التفتيش والرقابة بين الجهات الحكومية المختلفة، بهدف تقليل عبء تكرار الزيارات الرقابية من جهات متعددة على منشآت القطاع الخاص، ويعمل المركز أيضا على تحسين إجراءات الشفافية والنزاهة في أعمال الرقابة والتفتيش. لن يكون هدف هذا المقال مناقشة إنشاء هذا المركز لا من حيث الأسباب ولا المفاهيم، وأتوقع أن يكون ذلك محل نقاش طويل جدا في الأشهر والأعوام المقبلة، فالمهمة ليست سهلة على كل حال، لكن سأناقش مسألة ترتبط بوجود هذا المركز، وهي الإيرادات الحكومية الناشئة من المخالفات والغرامات.

دون الدخول في مناقشة الفرق بين الغرامة والمخالفة فإن المسألة في الإيرادات الحكومية تتعلق بما جاءت به الفقرة "5" من المادة الثانية من نظام إيرادات الدولة، التي عدت الغرامات والجزاءات من إيرادات الدولة، لكن هناك مشكلة في إثبات هذه الإيرادات، مشكلة بسيطة لكنها ذات أثر بالغ، وبداية أشير إلى دراسة نشرها صندوق النقد الدولي عن العقوبات المالية التي تهدف إلى ردع السلوك وتحقيق أكبر قدر من امتثال الأشخاص بالمسؤوليات المدنية والاجتماعية، حيث تشير الدراسة إلى نظرية الاختيار العقلاني التي تؤكد أن الأشخاص يمتثلون بسهولة أكبر لالتزاماتهم في الظروف التي تكون فيها الفوائد من هذا الامتثال أكبر من تكاليف عدم الامتثال "يعني فوائد الامتثال أعلى من الغرامة"، لهذا تنصح كل الدراسات عند تصميم نظام فعال للعقوبات ومنها الغرامات فهم ما يحفز الجهات الفاعلة المنطقية على عدم الامتثال، وهذه نقطة أساسية، فالهدف من الغرامات يجب أن يركز على مفهوم تعزيز الامتثال، وليس الهدف منه تعزيز الإيرادات، ذلك أن للغرامة المالية خصائص وهي: أولا: إنها عقوبة في مقابل حدوث سلوك يتسبب بضرر. ثانيا: هذا السلوك يمثل عدم التزام بمسؤوليات مدنية أو اجتماعية. ثالثا: أن تكون خاضعة لشرط الاختيار العقلاني "منافع الالتزام أكثر من تكلفة عدم الالتزام". بغير هذه الشروط في الغرامة فإنها تقود إلى مشكلة اجتماعية واقتصادية وهي عدم المساواة، وهذا ما أكدته دراسات كثيرة.

المشكلة الثانية في الغرامات التي لا تحقق الشروط السابقة أن الموظفين الموكل إليهم تقرير هذه الغرامات يتم عادة تحفيزهم بعدد وقيمة الغرامات التي تم تقريرها، وهذا له تبعات سأوضحها، لكن هذا التحفيز يقود إلى استخدام أساليب المباغتة وتجنب إنذار المكلف، والتعسف في تفسير النص من أجل إيقاع أكبر عدد من العقوبات ومن ثم تحقيق الأهداف المسؤول عنها هذا الموظف "المراقب"، فالمراقب عندما يوقع العقوبة لا يهتم بشأن مآلات هذه العقوبة لا من جانب إيرادات الدولة ولا من جانب المكلف نفسه، من جانب المكلف فإن الغرامة في أول الأمر عقوبة بشرط أن يقوم بسدادها فورا، لكن إذا تأخر في السداد أصبحت دينا عليه، أي تحول موضوعها من عقوبة إلى دين، وكلما زادت العقوبات التي لم تسدد زاد حجم الدين، من جانب الدولة فإذا تم تسديد هذه العقوبات فورا فهي إيرادات وإذا لم يتم أصبحت عهدة "دين في ذمة المكلف" وجب سدادها، وخلاصة القول هنا إن المراقب الذي يقوم بفرض العقوبة لا يهتم عادة بما سيكون الحال عليه في الحسابات الحكومية ولا في حسابات المكلف، بل هو يحقق الهدف المطلوب منه فقط بغض النظر عن السداد أو عدمه.

في الحالات المحاسبية المعتادة "دون تفاصيل مملة" عادة يتم معالجة هذه الغرامات إيرادات وفقا لنص المادة "2" الفقرة الخامسة من نظام إيرادات الدولة، لكن في الحقيقة لم يتم سداده حتى الآن، أي لم يتم دفعها نقدا، لذلك تصبح عهدا تحت التحصيل حتى السداد، بهذا يظهر أن حساب عهد تحت التحصيل يرتفع كلما ارتفعت الغرامات وكذلك حساب الإيرادات بغض النظر هل فعلا تم تحصيل هذه الغرامات أم لا، وهذا يضخم هذه الحسابات، وعلى أساس أن المواطن في وقت ما سيقوم بسداد هذه المخالفات ويتم معالجة السداد بتخفيض رصيد العهد، لكن هناك مشكلة معقدة دون حل، وهي أن معظم هذه المخالفات لا تزال تحت الدراسة، بمعنى أنها تظل محل اعتراض، وقد تم إثباتها في العهد تحت التحصيل وكذلك في الإيرادات، فإذا تم قبول الاعتراض ولم يقم المكلف بسداد هذه الديون، فإنه وبحسب علمي، لا توجد طريقة لمعالجة العهد تحت التحصيل التي سبق إثباتها. المعالجة الصحيحة لهذه القضية تبدأ من تسجيل هذه العهد كمطلوبات فقط، وليس كإيرادات، ثم استكمال العمل عند السداد أو عكس القيد عند قبول الاعتراض، لكن هذه المعالجة تقود إلى عدم الاعتراف بما قرره المراقب والمفتش كغرامة ولا يتم إثباتها في إنجازاته حتى يتم سدادها فعليا، أو تنتهي مدة الاعتراض عليها، أتمنى من المركز الوطني للتفتيش والرقابة الاهتمام بهذا الموضوع.

 

 

 

نقلا عن الاقتصادية