لعقود طويلة كانت الدول الغربية هي الدائن الرئيس في العالم، واستخدم كثير من الدول الغربية سلاح الديون كوسيلة للضغط على الدول النامية في مواقف متعددة. ومنذ منتصف القرن الماضي، أدركت الدول الغربية ضرورة وجود مظلة للدائنين تمكنهم من التنسيق فيما بينهم في حال تعثر دولة عن السداد، وتعطيهم الفرصة لتبادل المعلومات حول المستحقات لكل دولة. ومن هنا نشأ نادي باريس للديون، الذي تأسس سنة 1956، في ذلك العام، أرادت الأرجنتين مقابلة دائنيها لدراسة كيفية الإيفاء بالديون المتراكمة عليها. كان هذا اللقاء في باريس (بداية نادي باريس)، الذي يهدف إلى إيجاد حلول مستدامة لتخفيف عبء الديون على البلدان غير القادرة على سداد قروضها الثنائية. ويوفر النادي قناة اتصال بين الدول المدينة مع مقرضيها بوجود وسطاء، وبالتنسيق مع المنظمات العالمية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي. ويتكون النادي من 22 دولة، معظمها من الدول الغربية، وهي الدول الدائنة، وتجتمع هذه الدول 10 مرات في باريس، برئاسة مسؤول ذي مستوى عالٍ من الخزانة الفرنسية. كما أن هناك عدداً من الجهات المراقبة للنادي، مثل الهند، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، والمفوضية الأوروبية، والبنوك التنموية، مثل بنك التنمية الآسيوي. وقد لعب نادي باريس دوراً مهيمناً في الإقراض الثنائي، فقد كان الجهة الرئيسية التي تقصدها الدول النامية لإعادة جدولة سداد ديونها. ومنذ تأسيسه حتى الآن، أسهم النادي في أكثر من 470 اتفاقية، ضمت 102 دولة، وبلغت الديون المعالجة نحو 600 مليار دولار.
لكن دور النادي تضاءل خلال العقدين الماضيين، والسبب الأكبر لذلك هو بروز الصين كأحد أكبر المقرضين للدول النامية في العالم، والصين ليست عضواً في النادي، وقد رفضت مسبقاً الانضمام إليه. وما يلخص تأثير الصين في انحسار دور نادي باريس هو قصة الأزمة السريلانكية بداية هذا العام. حيث تواصلت سريلانكا مع النادي للحصول على خطة إنقاذ بقيمة 2.9 مليار دولار للخروج من أزمة اقتصادية عصفت بها. وفي العادة، يجتمع أعضاء النادي بالتنسيق مع البنك الدولي للنظر في استحقاقات الدول الدائنة لسريلانكا ومحاولة إيجاد سبل لإعادة جدولة الديون حتى الإعفاء من بعضها. لكن 52 في المائة من الديون على سريلانكا كانت من 3 دول، هي الهند واليابان والصين. واليابان عضو في النادي فلم تتسبب ديونها في أي مشكلات، إلا أن الهند والصين ليستا كذلك. أما الهند فرفضت الدخول في مفاوضات مع سريلانكا من خلال النادي، وفضّلت إجراء مفاوضات ثنائية مباشرة بينها وبين سريلانكا. في المقابل، كان إجراء الصين أن أجّلت السداد لمدة سنتين، دون الدخول في أي محادثات مع نادي باريس.
بعد هذه الحادثة، اتُهمت الصين من الدول الغربية علناً بإدخال الدول النامية في دوامات ديون لا تستطيع الخروج منها، تحت مظلة مبادرة «الحزام والطريق»، التي ترى الدول الغربية أنها إحدى المساعي الصينية لزيادة نفوذها الدولي. وتعثر الدول النامية في نظر الدول الغربية يعطي الصين قوة على هذه الدول النامية، ويمكنها من فرض شروط جديدة تزيد من نفوذها. وفي حين أن نادي باريس، بحسب مبادئه المعلنة، لا يفرض أي أجندات سياسية لإعادة هيكلة ديون الدول النامية، تُتهم الصين أن عمليات إعادة الهيكلة غير شفافة وذات شروط خفية.
في المقابل، فإن الصين تؤمن أن نادي باريس ليست لديه الصلاحية في فرض شروط على الصين، لأنه لا يمتلك صفة دولية، وتنظر الصين إلى مبادرات دولية أخرى، تخدم نفس الهدف، مثل مبادرة تعليق مدفوعات خدمة الدين، التي أطلقتها مجموعة العشرين. وتعتقد الصين أن نادي باريس والبنك الدولي يحاولان الضغط على الصين من خلال التأثير على الدول المستدينة حتى لا تقبل عروض الصينيين لإعادة هيكلة الديون.
إن الوصول إلى آلية دولية لإعادة هيكلة الديون تحت مظلة دولية، مثل مجموعة العشرين، أو بريكس، أو غيرهما، هو أمر ضروري، في وقت أصبحت فيه الديون أداة أساسية لنمو الدول. إلا أن تنوع الشروط المفروضة عند منح هذه الديون يصعب الاتفاق الدولي على إعادة جدولتها، خاصة في حالة الصين. فالصين ترى أن النموذج التي تتعامل به مع الدول النامية يساعدها في النمو والاستثمار دون فرض شروط تعجيزية على الدول النامية، بينما ترى الدول الغربية مع البنك الدولي وصندوق النقد أن الخطط الحكومية التي عادة ما تكون تقشفية هي أحد الشروط الأساسية لمنح القروض أو إعادة جدولتها. وفي وسط هذه الاختلافات بين الدول الدائنة، تبقى الدول النامية تنتظر الوصول إلى حلول سريعة، تمكنها من الخروج من أزماتها الاقتصادية.
نقلا عن الشرق الأوسط