أثر تزامن صرف الرواتب في المنشآت الصغيرة «3»

20/08/2023 1
د. محمد آل عباس

في الجزء السابق من هذا المقال أوردت نص "كتاب الوزراء"، في ضمان الوزير أحمد بن محمد الطائي في أيام المعتضد بالله في جانب المصروفات، وقد ثبت أنها تشريع من الخليفة بأوجه وقيمة الإنفاق اليومي "المياومة". وتعريف المياومة -كما سبق وأشرت- مصدر ياوم، ومنه ياوم المقاول أي استأجره باليوم، أي شغله يوما بيوم، ودفع له أجره كل يوم. ونتذكر من المقال السابق أن تقدير قيمة إيرادات الخراج يوميا قد بلغ سبعة آلاف دينار، لذلك تم تقدير قيمة المصروفات يوميا بالمبلغ نفسه، وهذا مختلف تماما عما يتم هذه الأيام من حيث إن التقدير يأتي سنويا، وإن تقدير المصروفات منفصل تماما عن الإيرادات، وإنه إذا لم تتمكن الإيرادات العامة من تغطية المصروفات فيتم سداد الفرق بالدين، وعلى هذا فإن ميزانية الدولة في العصر العباسي لم تكن تعترف بالعجز، ومما يلاحظ أن الميزانية كانت دقيقة جدا وتفصيلية تؤكد أن عصر الخليفة المعتضد بالله كان قمة في أعمال المحاسبة وغاية الدقة ومراقبة أوجه الصرف، لكن ما يثير النقاش في النص هو تحديد عدد أيام الشهر بـ30 يوما أو بـ50 يوما أو أكثر حتى تصل إلى 120 يوما، فهي مسألة تحتاج إلى تأمل.

فالنص ورد بتقدير الإيرادات بقيمة سبعة آلاف دينار يوميا، وأن الإيرادات الشهرية وفقا لذلك تصل إلى 210 آلاف دينار، وهذا ما جاء النص به، لكن عندما تم جمع المصروفات المقررة يوميا فإنها بلغت فعليا سبعة آلاف دينار، لكن إذا تم تقدير المصروفات الشهرية على أساس 30 يوما فإن المجموع لا يتعدى 100 ألف دينار، وهذا ما يصعب فهمه، لكن عند الأخذ في الحسبان أن بعض المصروفات لها عدد أيام شهر تصل إلى 120 يوما فإن الأمر قد يكون مفهوما إذا كانت هذه المصروفات تدفع بشكل يومي. لذلك قد تتفق النفقات في الحساب اليومي وتختلف في حساب الشهر نظرا إلى أن المجموع الشهري يختلف بحسب عدد أيام الشهر المقدرة للموظفين في الدولة، لكن ما أهمية ذكر عدد أيام الشهر المشار إليها، لقد تأملت في ذلك وأعتقد أن الهدف منها ليس تحديد وقت الدفع، بل "فقط" تقرير قيمة الأجر اليومي، ذلك أنه كلما زاد عدد أيام الشهر المقررة قلت قيمة الأجر اليومي، فكأن الميزانية مبنية على عقد عمل بعدد أيام محددة، يصل بعضها إلى 120 يوما، ويتم تقدير الحق عن اليوم الواحد وفقا لذلك، وعلى هذا فما زالت الأجور حتى في عهد المعتضد تدفع يوميا كما هو واضح من هذا الاستنتاج.

هناك دليل آخر ولافت جدا ورد في كتاب الوزراء، وهو خاص بالإجازة الأسبوعية حيث ورد النص كالآتي: "ثم أمر (أي المعتضد بالله) عبيدالله بن سليمان وبدرا بألا يحضرا ولا أحد من القواد والأولياء الدار في يومي الجمعة والثلاثاء لحاجة الناس في وسط الأسبوع إلى الراحة والنظر في أمورهم والتشاغل بما يخصهم، ولأن يوم الجمعة يوم صلاة وكان يحبه لأن مؤدبه كان يصرفه فيه عن مكتبه... ومنع أن يفتح في هذين اليومين ديوان أو يخرج شيء إلى مجلس... فوفر من مالها أربعة آلاف دينار وسبعمائة دينار وسبعين دينارا..."، وفي هذا النص كثير مما يستحق التأمل، فالإجازة الأسبوعية للراحة من أعباء العمل "يومان في كل أسبوع" كانت في الدولة العباسية منذ أيام المعتضد بالله وهو أول من أقرها، أي قبل نحو 1200 عام تقريبا، ولكنها كانت إجازة غير مدفوعة الأجر كما هو اليوم، لذلك جاء النص بأنه قد تم توفير قيمة هذه الأيام ممن تمت إجازتهم، لأن بعض الجند لم يتمتع بتلك الإجازة الأسبوعية.

لقد أوردت هذه النصوص الطويلة في معرض سؤال عن مصدر التشريع بدفع الأجور نهاية كل شهر، ولأنني أرى أن هذا الأسلوب وإن كان له تبرير في المالية العامة بشأن سهولة العمل، إذ إن الدفع اليومي يعني مشكلات لا حصر لها، إلا أنه يظل محل نقاش فلسفي، عن الطبيعة والأثر الاقتصادي له، فالدفع المؤجل للأجور يعني أن صاحب العمل قد استفاد من التأجيل في إنتاج قيمة إضافية وهذه القيمة الإضافية لم تتم مشاركة العمال فيها، ولن أذهب بعيدا في هذا النقاش، فقد سبق وطرحته تفصيلا، لكني أطرح مسألة أخرى في غاية الأهمية وهي أثر تأجيل الدفع حتى نهاية الشهر، ليس في العمال، بل حتى في الاقتصاد. فالشاهد في الأمر أن تأجيل الدفع حتى نهاية الشهر ليس له أساس فلسفي، بل هو من حكم العادة، كما أنه يؤثر سلبا في العمال في أن القيمة الإضافية التي تنتج من تأجيل الدفع لم يتم أخذها في الحسبان عند السداد، بل يتم حسابهم عن أجر اليوم فقط كما لو كنا في العهد العباسي. لكن ما ميز النص العباسي أن تقرير قيمة الشهر للعمال ليس بالضرورة أن يكون كل 30 يوما، بل قد يكون أقل أو أكثر، وهذا بحسب الحالة الاقتصادية العامة، كما ليس بالضرورة أن يتم دفع أجور الموظفين في وقت واحد، بل يمكن ترتيب ذلك على مدار الشهر، وهذا يعني أن يتم صرف الأجور لفئة معينة في أول الشهر، وفئة أخرى في منتصف الشهر وفئه ثالثة في آخر الشهر، وهذا يمنح الاقتصاد مرونة كبيرة في جانب التدفقات النقدية... يتبع.

 

 

 

نقلا عن الاقتصادية