ظل نظام الأجور في الفكر الإسلامي محل تساؤل عندي، والسبب يعود إلى فهم حديث النبي محمد صلى الله عليه وسلم "أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه"، فهو يحث المجتمع على دفع أجر العامل فور انتهاء عمله، وعدم تركه ينتظر فترة، وفي حديث آخر "مطل الغني ظلم" فمماطلة العامل على راتبه وتأخيره عليه يعد من الظلم، وفي ظل هذه المعاني: فمن أين أتت ممارسة دفع الأجور بعد 30 يوما "شهريا"؟، وهل هي ممارسة ظهرت -كما كان يبدو لي- مع الثورة الصناعية عندما انتقل العمال من المزارع الخاصة والورش البدائية للعمل في المصانع، والعيش في المدن؟، لقد تغير كل شي حينها، حيث لم يعد الملاك يدفعون أجر الإنتاج يوميا، بل يتم دفع قيمة إنتاج العمال عند نهاية الشهر على أساس العقد، وهذا رغم أن أرباب المصانع قد حصلوا على إنتاج كل يوم بيومه، وقاموا فعلا ببيع الإنتاج، وتحصلوا على النقد، لكنهم بدلا من دفع الأجور مباشرة، يتفقون مع العمال على الدفع المؤجل، ما يمنحهم مزية إعادة استثمار النقد من أجل شراء المواد والعودة للمصنع لاستكمال دورة إنتاج جديدة، وهكذا في كل يوم حتى نهاية الشهر إذ تسلم الأجور حينها، لكن هذا الأسلوب يعد حق اليوم الأول من العمل كحق اليوم الأخير، بينما الواقع مختلف، فحق اليوم الأول من العمل قد ظل في حكم الدين على صاحب العمل استفادة منه في الإنتاج والتشغيل "بدلا من دفعه"، فهل ليس للعامل حق في المدة بين نشأة الحق الذي وقع في الذمة ووقت الدفع في آخر الشهر؟ لقد كانت كل هذه الأسئلة محل بحث شخصي، لكن عندما قرأت كتاب الوزراء للصابي، تغيرت الصورة قليلا.
جاء في كتاب "الوزراء" تفاصيل دقيقة وشرح مفصل لما أسماه صاحب الكتاب "أصل ضمان أحمد بن محمد الطائي في أول أيام المعتضد بالله ـ رحمة الله عليه ـ في أعمال سقي الفرات ودجلة وجوخى وواسط وكسكر وطساسيج نهر بوق والذيبين...مما شرط عليه أداؤه مياوما في بيت مال من العين. ألفي ألف وخمسمائة ألف وعشرين ألف دينار "2520000" قسط كل شهر من ذلك ـ مائتي ألف وعشرة آلاف دينار "210000" وكل يوم سبعة آلاف دينار "7000". انتهى النص.
هذا النص التاريخي المهم يوضح كيف تم بناء موازنة الإيرادات لبيت المال، وهذا أولا، فالموازنة هنا أتت على شكل ضمان والتزام بالأداء، فكأن رئيس الوزراء حينها "أحمد بن محمد الطائي" مدين بهذه الإيرادات، وفقا للمفاهيم المحاسبية اليوم، والإيرادات المضمونة هي عبارة تقدير للخراج في تلك المناطق التي حددها النص، أولها سقي الفرات ودجلة، أي المزارع التي تسقى من الفرات ودجلة، ولك أن تتصور كم كانت تلك المزارع على طول منطقة الفرات ودجلة التي تحت سيطرة دولة المعتضد بالله، فالموازنة تبدأ من هنا، من تحديد الإيرادات، وليس كما هو معمول به الآن في المحاسبة الحكومية حيث لا ارتباط بين الإيرادات والمصروفات، فيتم تحديد المصروفات بشكل مستقل، والإيرادات بشكل مستقل، ويصدر تشريع بكل منها، ثم يقرر وزير المالية العجز المالي في حينه وتتم معالجته بالدين أو الاحتياطيات.
فالطريقة في ذلك الزمان تقضي بأن تكون الإيرادات دين على الوزير "وهذا من المحاسبة عن المسؤولية"، ولتحديد هذه المسؤولية يقوم رئيس الوزراء مع ممثلي الدواوين الأخرى والجباه بتقدير حجم الخراج من كل منطقة من المناطق المذكورة في النص، وقد يتطلب ذلك زيارة لكل هذه المناطق وحسابها بالمساحة، ويتم توقيع نتيجة ذلك التقدير بشهادة الشهود، ثم تصبح هذه الإيرادات دين على الوزارة بتوقيع الوزير، أمام الخليفة، فعلى الوزير مع كافة موظفيه العمل على جباية هذه الإيرادات وأن يتم توريدها لبيت المال يوميا أو بشكل شهري أو سنوي حسب الاتفاق، فمنذ بداية العام سيكون ضامنا للخليفة بهذا الرقم لذلك بدأ النص في الوثيقة بقوله "أصل ضمان أحمد بن محمد الطائي في أول أيام المعتضد بالله"، وقد تم تقسيم الضمان بشكل سنوي وشهري ويومي، ما يسهل على المدققين الذين يرسلهم الخليفة ومن بينهم ديوان البريد ومدققين آخرين يلقبون بالجهابذة "ممثلو ديوان المحاسبة اليوم" وهم مجموعة من الخبراء في الحساب لجرد بيت المال وتتبع كافة إيراداته، لهذا يجب أن يكون لدى رئيس الوزراء جهابذة أيضا في الحساب يسجلون كل ما يتم إيداعه في بيت المال وما مصدره وأين يدفع، وفي كتاب الوزراء ما يدهش في مسألة التحقيق "التي كانت تسمى المؤامرة" كيف يتم اكتشاف التلاعب الذي يقوم به الوزراء وعمالهم. هناك قضايا مما يجب لفت الانتباه لها وهي أن تحديد سعر الخراج يتم بالاتفاق بين الخليفة وبين رئيس الوزراء، ويتم تعميمه على كافة المناطق، وعادة يتم الاتفاق على الأسعار مقارنة بالأسعار التي أقرها عمر بن الخطاب، فتلك الأسعار ظلت مرجعية فترة طويلة جدا من عمر الدولة الإسلامية، وأما مسألة الزكاة فإن سعرها محدد، تتم جبايتها وفقا لما تم إقراره شرعا، ويتم توزيعها على مستحقيها، ولها سجلات خاصة في بيت المال، لكنها ليست محل النقاش في هذا المقال.
قد يسأل القارئ الكريم، حول علاقة هذا بعنوان المقال "تزامن الرواتب"، وأعود للقول إنني أتتبع في هذا الجزء من المقال مرجعية تحديد وقت دفع الأجور في نهاية كل شهر، "أي بعد العمل"، وفي المقال المقبل سأعرض نص "كتاب الوزراء"، حيث أورد المؤلف للكتاب باقي نص الضمان على الوزير أحمد بن محمد الطائي في أيام المعتضد بالله، لكن في جانب المصروفات "أين يتم صرف الخراج" وحيث تظهر بوضوح في ذلك النص مشكلة توقيت صرف الرواتب.
نقلا عن الاقتصادية