أثر تزامن صرف الرواتب في المنشآت الصغيرة "2"

13/08/2023 0
د. محمد آل عباس

نتتبع في هذا الجزء من المقال مرجعية تحديد وقت دفع الأجور في نهاية كل شهر، "أي بعد العمل"، وقد عدت في المقال السابق إلى نص "كتاب الوزراء"، حيث أورد المؤلف للكتاب نص الضمان على الوزير أحمد بن محمد الطائي في أيام المعتضد بالله ولكن في جانب الإيرادات "الخراج"، وفي هذا المقال استكمال للنص من جانب المصروفات. وكما أشرت سابقا إلى أن الموازنة العامة لمصروفات الخلافة العباسية في زمن المعتضد بالله كانت تتم من خلال تقدير حساب الإيرادات "أولا" ويكون هذا التقدير دينا على القائم بأعمال الوزارة، ثم يتم بعد ذلك تحديد أوجه الإنفاق، وقد جاء النص في كتاب الوزراء عن أوجه الإنفاق مفصلا في عشر صفحات وهي تشبه تعليمات الميزانية اليوم، وقد بدأ النص بعبارة "تفصيل خرج المياومة مما شرط فيه ما قرره المعتضد ـ رحمة الله عليه ـ منه" وهذا يدل على أنه تشريع من الخليفة بأوجه وقيمة الإنفاق اليومي "المياومة" فالمياومة في المعاجم مصدر ياوم ومنه ياوم المقاول أي استأجره باليوم، أي شغله يوما بيوم، ودفع له أجره كل يوم، ونتذكر من المقال السابق أن تقدير قيمة إيرادات الخراج يوميا قد بلغت سبعة آلاف دينار، لذلك فإن قيمة تقدير المصروفات يوميا يجب أن تقابل هذا التقدير، ولذلك جاءت تفاصيل الميزانية يوميا التي أقرها الخليفة العباسي على النحو الآتي "باختصار وتصرف من جانبي":

ـ أرزاق البوابين جملة 30 ألف دينار في الشهر "1000 دينار يوميا".

ـ أرزاق الغلمان الذين أعتقهم الخليفة العباسي الناصر، جملة 60 ألف دينار شهريا "ألف دينار يوميا" وقد ورد في النص أن أيام شهرهم 60 يوما، وقد كانت 40 يوما ثم أساؤوا الأدب فتمت معاقبتهم بجعل شهرهم 60 يوما. وقد نقف عند هذا النص قليلا لأنه يفهم منه أنه قد تم حساب أجرهم بشكل يومي لكن لن يدفع لهم إلا بعد 60 يوما، وهنا تظهر لأول مرة دلائل تأجيل دفع الأجور "وقد تتم معاقبة البعض بزيادة أيام الشهر مع بقاء المبلغ المخصص كما هو، ما يعني تخفيض الأجر اليومي كما يتضح من النص".

ـ أرزاق الفرسان 135 ألف دينار ويسمون التسعينية لأن أيام شهرهم كانت 50 يوما فجعلت 90 يوما، "وهذا دليل إضافي على تأجيل الدفع اليومي" "يلحظ أيضا من تدبير الميزانية أن المبلغ ثابت ويتم تعديل حجم المصروفات بتعديل عدد أيام الشهر" فمثلا هنا كانت المصروفات 135 ألف فيكون مجموع الأجر اليومي 2700 دينار عند عدد أيام الشهر 50 يوما وتقلص هذا المبلغ إلى 1500 عندما تمت زيادة أيام الشهر إلى 90 يوما، وفي النص كلام جميل بشأن عرض الجند على الخليفة العباسي في يوم محدد ثم يستعرض القائد بجنده ويكون هناك لجنة للتحكيم التي تقرر من هم الفرسان ومن هم الجند، ويضعون علامات وحديث مفصل في هذا الشأن، حيث من يتم اختياره للفرسان يكون من الذين شهرهم 90 يوما، ومن يتم استبعاده يكون شهرهم 120 يوما.

- يوجد في النص أيضا إشارات إلى أرزاق المختارين من كل قيادة، ومن استخلصهم الخليفة لمواكبه وملازمة داره وجعل شهرهم 70 يوما بقيمة 42 ألف دينار، وقسط كل يوم 600 دينار.

ـ أرزاق الفرسان من عسكر الخدمة وأيام شهرهم 122 يوما، بقيمة 60 ألف دينار وقسط اليوم 500 دينار.

ـ أرزاق 17 صنفا من المرسومين بخدمة دار الخلافة والرسائل الخاصة والقراء وأصحاب الأخبار والمؤذنين والمنجمين وغيرهم ممن جاء وصفهم في الكتاب وأيام شهرهم 30 يوما بقيمة ثلاثة آلاف دينار بقسط كل يوم عشرة دنانير.

ـ الشرطة في بغداد ومن عمل معهم من السجانين والموكلين بأبواب المدينة وشهرهم 120 يوما بقيمة ستة آلاف دينار بقسط يومي 50 دينار.

ـ قيمة الضيافة "إنزال" بقيمة تسعة آلاف في الشهر وقسط 300 دينار يوميا.

ـ نفقات المطابخ الخاصة والعامة والمخابز وضيافة حرم الخلافة عشرة عشرة آلاف دينار بقسط 333 دينار وثلث.

ـ الكسوة والطيب والسلاح والسروج والفرش والستائر وأجور الحمالين والأهوان ثلاثة آلاف دينار في الشهر بقيمة 100 دينار يوميا.

ـ السقاؤون ومن يعمل بالروايا على البغال 120 دينار في الشهر بقسط أربعة دنانير يوميا.

ـ الغلمان والخدم والحشم القدماء أيام شهرهم 50 يوما، قسط كل يوم 167 دينارا.

ـ أرزاق حرم الخليفة "نساؤه" ثلاثة آلاف دينار كل يوم 100 دينار.

ـ كما جاء في النص ميزانية مخصصة للصدقة ولجاري أولاد المتوكل والواثق والناصر مشايخ الهاشميين وخطباء المساجد والكتاب في الدواوين ونفقات السجون والبيمارستان "المستشفى" كما تم تخصيص مبالغ للعلف للاصطبلات وثمن الإبل والخيل والطابخين والفراشين وخزان الفرش وثمن حتى الجلساء وأكابر الملهين "كما جاءت تسميتهم في النص" حتى ثمن النفط والمشاعل، كل ذلك تم تخصيص مبلغ محدد له من ميزانية 7000 دينار المخصصة لكل يوم.

وهذه الميزانية الدقيقة جدا تؤكد أن عصر الخليفة المعتضد بالله كان قمة في أعمال المحاسبة ودقة في تقديرات الميزانية وتحديد دقيق لأوجه الصرف والرقابة عليها، لكن مع ذلك فإننا نجد مسألة تحديد عدد أيام الشهر بـ50 يوما أو أكثر حتى تصل إلى 120 يوما مسألة تحتاج إلى تأمل، خاصة أن الميزانية تم بناؤها على تقدير دقيق لقيمة كل يوم، ذلك أن أبواب الميزانية بلغت 37 بابا، ومجوع نفقاتها في الشهر يصل لقريب 100 ألف دينار، ما يشير إلى وجود فائض بين ما تم إقراره من إيرادات الخراج وبين ما تم تقريره من مصروفات شهرية، وذلك على الرغم من أن المصروفات اليومية بلغت فعلا سبعة آلاف دينار كما تم إقراره في ضمان الإيرادات، وهذا مما يصعب فهمه إلا إذا كانت هذه المصروفات تدفع بشكل يومي، لذلك قد تتفق النفقات في الحساب اليومي وتختلف في حساب الشهر، نظر لأن المجموع الشهري يختلف بحسب عدد أيام الشهر المقدرة للموظفين في الدولة، وعدد أيام الشهر المشار إليها ليس الهدف منها تحديد وقت الدفع، بل فقط تقرير قيمة الأجر اليومي، ذلك أنه كلما زاد عدد أيام الشهر المقررة قلت قيمة الأجر اليومي، فكأن الميزانية مبنية على عقد عمل بعدد أيام محددة، يصل بعضها إلى 120 يوما ويتم تقدير الحق عن هذه الأيام كلها ولكن يتم الدفع يوميا، وعلى هذا فما زالت الأجور حتى في عهد المعتضد تدفع يوميا كما هو واضح من هذا الاستنتاج... يتبع

 

 

 

نقلا عن الاقتصادية