الاقتصاد الحضري وتطبيقاته

26/07/2023 0
أ.د. سعد داود قرياقوس

تنمية المجتمع وتطوير الهياكل الاقتصادية، وبناء اقتصاد مستقر تعد اهداف استراتيجية لا يمكن تحقيقها بمعزل عن تطوير المدن، ومعالجة معوقات نموها.  غالبية التحديات المعقدة التي تعاني منها المدن المعاصرة تعود أسبابها الى اهمال مخططي المدن واداراتها لأسس ومبادئ الاقتصاد الحضري في رسم الخطط الأساسية للتوزيع السكاني، وتوزيع مراكز الإنتاج والخدمات الأساسية، داخل المدن، الاقتصاد الحضري؛ فرع من فروع علم الاقتصاد يهتم في تحليل العلاقات السائدة بين المكونات الاقتصادية الرئيسية في المدن، ويفسر سلوك الافراد والمنشآت الخاصة، وممارساتهم وخياراتهم الاقتصادية، وقراراتهم المرتبطة بالحيز المكاني، باستخدام أسس الاقتصاد الجزئي. الى جانب تحليل التحديات الناجمة عن تمدد المدن وارتفاع الكثافة السكانية، وتأثيرها على منافع الافراد ورفاهية المجتمع. يشمل نطاق الاقتصاد الحضري العديد من المفاصل الأساسية، سنوجز ادناه أبرزها وأكثرها تأثيراَ على منافع الافراد: 

المفصل الأول؛ دور عوامل السوق في نشأة المدن ونموها. 

يحلل المفصل مقومات نشأة المدن، وأسباب التكتل الصناعي، وحجم المدينة وعوامل النمو الحضري. كما يحلل الاثار السلبية المترتبة عن الاكتظاظ السكاني؛ الضوضاء، التلوث البيئي، ارتفاع معدل الجريمة، الاختناق المروري، البطالة، وسواها من مشاكل المدن المعاصرة، الى جانب الجوانب أعلاه، يفسر الاقتصاد الحضري مقومات نشوء المدن. ثمة ثلاث مقومات أساسية يجب توافرها في الحيز المكاني كي يتحول من موقع جغرافي منعزل الى مدينة: توفر الفائض الزراعي، الإنتاج الحضري الكفوء، وتوفر نظام- شبكة - مواصلات ووسائط نقل " خدمات لوجستية " تسهل عمليات التنقل والتبادل السلعي بين سكان المدينة والمناطق الريف، على امتداد التاريخ البشري نشأت اصناف عديدة من المدن نتيجة توفر مقومات اقتصادية وغير اقتصادية متعددة أبرزها: المدن التجارية، المدن الصناعية، المدن المتخصصة والمدن الشاملة. كما لعب التكتل الصناعي دورا أساسيا في نشأة المدن ونموها.  وفقا لتحليل الاقتصاد الحضري، تكتل منشآت تنتمي الى نفس الصناعة او القطاع، وتنتج سلع متجانسة يفرز منافع اقتصادية لكافة المنشآت، لعل أبرزها: الانتفاع من الاستخدام المشترك للسلع الوسيطة، الاستفادة من تجمع قوة العمل المتوفرة في مناطق التكتل الصناعي وانتقال المعرفة والخبرة، الاقتصاد الحضري يحلل أيضا العوامل المحددة لحجم المدينة، وأسباب تباين احجام المدن، الى جانب مقايسة تكاليف ومنافع المدن الكبرى، ويحلل التكاليف الاجتماعية والمالية الناجمة عن الزحف العمراني، وتبعات توسع المدينة على منافع السكان ورفاهية المجتمع.  

المفصل الثاني؛ السكن الحضري. 

السكن حاجة إنسانيَّة أساسيَّة، وسلعة اقتصاديَّة متميِّزة بالغة الأهميَّة الاقتصاديَّة التي تنبع من أهميَّة سلعة السكن وارتفاع إسهامها في الناتج المحلي الإجمالي. هذه الحصَّة المؤثِّرة في النشاط الاقتصادي لها جانبان من الأهميَّة:  

الأوَّل، يكمن في كونها تتيح للمخطَّط الاقتصادي آليَّة يتمكَّن من خلالها التأثير في نموِّ الناتج المحلِّي الإجمالي من خلال تنمية قطاع الإسكان وتحفيزه.  

الثاني، يعزى لتأثير التقلُّبات الحادَّة وغير المخطَّطة في محدِّدات معادلتي العرض والطلب الخاصة في قطاع السكن، على أداء الاقتصاد ونموُّه. هذه التقلُّبات في جانبي سوق السكن، تقود إلى تغيُّرات غير متوازنة في الأسعار والكميَّات المطلوبة، وفي عدم استقرار سوق السكن.  

فالسكن كما ذكرنا سلعة مميَّزة ذات أهميَّة اقتصاديَّة، ولها تأثير كبير في النموِّ الاقتصادي والاجتماعيِّ. لذا، فإدارة جانبيِّ سوق السكن باقتدار ونجاح، وتنظيم عرض السكن، وتحقيق توازن السوق، عوامل تساعد على استقرار النشاط الاقتصادي.  

المفصل الثالث؛ النقل الحضري. 

تعد ازمة الاختناق المروري أحد أكثر التحديات التي تواجهها إدارات المدن، والمراكز الحضرية صعوبة وتعقيدا وتأثيرا على جودة الحياة ورفاهية السكان والاقتصاد المحلي. يرجع جذر المشكلة الى ارتفاع استخدام العربات الخاصة الواسع في التنقل اليومي في المناطق الحضرية، حيث تصل نسبة استخدامها الى ما يقارب من 88% من حركة تنقلات الافراد يوميا و90 % من حركة السفر بين المدن، للتنقل طلبه الخاص وتكاليفه، حيث تتكون التكلفة الكلية للنقل من جزئين، تكلفة فردية وتكلفة اجتماعية تفوق قيمة التكلفة الفردية الخاصة.  ينجم الاختناق المروري عن قيام قائد المركبة في تحديد طلبه استنادا للتكلفة الفردية للرحلة الواحدة، واهماله التكلفة الاجتماعية. فعند استخدامه الطرق الداخلية المزدحمة يفرض قائد المركبة على الافراد والمجتمع تكاليف واعباء اجتماعية ومالية دون ان يتحمل قيمة تلك التكلفة أوجزا منها، ثمة نمطين من الآليات تتمكن الحكومات المحلية من توظيفها في معالجة الاختناق المروري عبر تقليل الطلب على استخدام الطرق الداخلية. النمط الأول ويضم الحلول الضريبية؛ ضريبة الزحام، ضريبة الوقود، تسعير الخطوط السريعة. اما النمط الثاني فيشمل حلول غير ضريبية أهمها: زيادة تكلفة مواقف العربات في مركز المدينة، تقديم دعم مالي لمستخدمي النقل العام او منحهم بطاقات اشتراك مخفضة السعر. من المسلم به، ان تطوير نظام النقل العام يعد الخيار الاكثر فعالية في حل ازمة الاختناق المروري. نجاح هذا الخيار يتطلب بناء منظومة نقل عام متكاملة متكونة من؛ خطوط المترو، حافلات النقل الداخلي، وخطوط السكك الحديدية الخفيفة. 

ماذا عن حلول ادارة العرض؟ وما تأثير توسيع الطرق وزيادة الطاقة الاستيعابية في حل ازمة الاختناق المروري؟  

تجارب العديد من المدن برهنت عدم فعالية سياسة ادارة العرض "توسيع او بناء طرق جديدة ". فالأزمة المرورية ليست مشكلة عرض، بل مشكلة طلب. سبب فشل سياسة العرض يعود الى ما يطلق عليه خبراء الاقتصاد الحضري بالطلب الكامن Latent Demand. منحنى طلب الافراد على التنقل في زمن الذروة عالي المرونة، حيث أن عدد كبير من مستخدمي الطرق يتوقفون عن استخدامها وقت الذروة بسبب بطء حركة سير العربات، لكنهم يعودون لاستخدام الطرق بعد توسيعها.  

المفصل الرابع؛ التحليل الاقتصادي لجرائم السرقة. 

منذ قيام التجمعات البشريَّة الأولى، شكَّلت الجريمة مصدر قلق للأفراد والمجتمعات، وتطلَّبت معالجتها حيِّزًا كبيرًا من جهود الأفراد والسلطات الحكوميَّة. ومع تطوُّر الحياة، واتِّساع حجم المراكز الحضريَّة غدت الجريمة وارتفاع معدَّلاتها أحد أصعب مشكلات الاقتصاد الحضري لما تسبِّبه من تكاليف مرتفعة للضحايا والمجتمع، وتأثيرها في قرارات الأفراد وخياراتهم. لعل من المفيد التنويه بأنَّ التحليل الاقتصادي لدوافع الفرد لارتكاب الجريمة، يقتصر على عمليات السرقة والاستحواذ، ولا تشمل جرائم العنف العاطفي، أو الشخصي، وسواها من الجرائم، يرتكز التحليل الاقتصادي لدوافع الأفراد الجرمية على فرضيَّة عقلانيَّة “المجرم المرشَّح” لارتكاب الجريمة، وتوظيفه معياري المنفعة الحدِّية والتكلفة الحدِّية. ووفقًا للنظريَّة، يتَّخذ الفرد العقلاني قراره للإقدام على السرقة بناء على مقايسة المنافع المترتِّبة عنها، والمتمثِّلة في قيمة المادة المسروقة بتكلفة الجريمة، وعلى مماثلة المنافع المترتِّبة عن دخله القانوني الراهن مع الدخل المتوقَّع من ارتكاب السرقة. يتمُّ تنفيذ السرقة إذا فاقت قيمة المنافع المالية تكلفة ارتكابها، “السجن والعقوبات الماليَّة”، وتفوُّق الدخل المتوقَّع منها على دخله القانوني. لا يقتصر التحليل الاقتصادي للجريمة على تفسير سلوك الأفراد الإجرامي، بل يقدِّم لنا تفسيرات لمجموع النشاط الجرمي المجتمعي، وتحديد كميَّة الجريمة التوازنيَّة، باستخدام نماذج التحليل الاقتصادي. 

المفصل الخامس. تحليل استخدام وتصنيف أراضي المدينة. 

يطرح المفصل أسس تحديد ايجار الأراضي الحضرية، نماذج استخدام الأراضي، اختيار مواقع النشاطات الأساسية، وتصنيف استخدام الأرض وتحديد النمو. وكذلك معايير تقسيم الأراضي على الأنشطة الاقتصادية الأساسية، وأسس تحديد الحد الأعلى لإيجار الأرض الذي يكون كل نشاط مستعدا لدفعه لإيجار او شراء قطعة الأرض في مناطق مختلفة من المدينة، كما يبين اليات توزيع النشاطات عل اقسام المدينة، العلاقة بين موقع الأرض والقرب من شبكة المواصلات، يحلل المفصل أيضا نظام تصنيف استخدام الأراضي Zoning. غالبية البلديات تنظم استخدام الأراضي باعتماد معايير تصنيف استخدام محددة، لخلق مزيج فعال ومتوازن من استخدام مختلف أصناف الأراضي؛ تجاري، صناعي، سكني. مناطق شبه منفصلة. الفكرة الأساسية لنظام تصنيف الأراضي تكمن في الفصل بين أراضي واستخدامات غير منسجمة او متباينة الصفات. التصنيف يستخدم أيضا كأداة فعالة في سياسات المحافظة على البيئة من خلال الفصل الموقعي -المكاني- بين مصادر التلوث والمناطق السكنية والتجارية. تأثير مصادر التلوث لا يقتصر على الجواب الصحية، بل يشمل أيضا التأثير السلبي على قيمة العقار.  

المفصل السادس؛ تحليل دور الحكومات المحلية في تطوير المدن وتوسعها. 

يركز المفصل على الإيرادات الحكومية، ويطرح جملة من الاسئلة المهمة أبرزها: معايير ضريبة العقار، من يتحمل عبء ضريبة العقار، أسس الإيرادات المتحصلة من مؤجري المساكن والمراكز التجارية، ضرورة مراعاة أسس الاقتصاد الحضري تنطلق من العلاقة المتينة بين تطور المدن وتقدم المجتمع، ومن موقع تنمية المدن في خطط التنمية الاقتصادية. لذا، تحقيق اهداف خطط التنمية مشروط في امتلاك الدولة القدرة على بناء مدن متطورة، ذات بنى تحتية متقدمة، توفر لسكانها خدمات راقية تلبي حاجاتهم ورغباتهم. فالحديث عن تطوير الدولة والمجتمع لا يستقيم دون تطور المدن والمراكز الحضرية وتحقيق تنمية اقليمية شاملة ومتوازنة. 

 

 

 

 

المقالة منشورة في النشرة الفصلية التي تصدرها جمعية الاقتصاد السعودية  عدد ذي القعدة 1444هـ / يونيو 2023م