عندما يكون اهتمامك سلعة

03/07/2023 0
د. عبدالله الردادي

إذا كنت من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي بأنواعها، فعلى الأرجح أنك تعرضت لواحد على الأقل من الأساليب التالية: مقدمة جاذبة جداً لسلسلة من التغريدات على «تويتر»، صورة عرض مثيرة للجدل لمجموعة من مقاطع الفيديو في «سناب تشات»، عنوان لافت لمقطع فيديو على «يوتيوب» من نوعية «شاهد قبل الحذف»! هذه الأساليب تستخدم وبكثرة في مواقع وسائل التواصل الاجتماعي، وقد كانت تستخدم من قبل في المجلات والعناوين الصحافية، والهدف الأساسي منها هو جذب انتباه المتابع للاطلاع على المحتوى، وهو ما يُعرف باسم «اقتصاد جذب الانتباه» أو «اقتصادات الاهتمام»، ويعد هيربرت سايمون، الفائز بجائزة «نوبل»، أول من بلوَر هذا المصطلح في بداية السبعينات الميلادية، ويعرّف «اقتصاد جذب الانتباه» على أنه منهج لإدارة المعلومات يتعامل مع الاهتمام البشري كـسلعة نادرة. وقد وضح سايمون أن الثراء المعلوماتي خلق فقراً في الانتباه، فمع كثرة المعلومات المتوفرة، أصبح من الصعب على البشر الالتفات لمعلومة محددة، ووجب اتّباع أساليب جديدة تمكّن من توجيه انتباه البشر إلى معلومات بعينها. وبعد الثورة الرقمية في بداية الألفية، ومع الازدياد الصاروخي لكَمّ المعلومات المتوفرة، زادت الحاجة إلى تطوير هذه الأساليب، وأصبح وجودها شرطاً للاطلاع على المحتوى.

وقد ذكرت دراسة من الأمم المتحدة أن البيانات الرقمية تتضاعف تقريباً كل عامين، وذكرت أخرى أن أقل من 1 في المائة من البيانات المتوفرة على الشبكة تم تحليله؛ أي إن السواد الأعظم من البيانات المتوفرة لم يُستفد منه بالشكل الكافي. ويكشف ذلك عن حقيقة لا يغفل عنها صنّاع المحتوى، وهي أن جودة المحتوى لم تعد كافية لضمان اطلاع الناس عليه، بل إن التسويق له بالشكل المناسب هو المحدد الأهم للاطلاع على المحتوى وإن ضعُفت جودته. ويبرر ذلك قلة الاطلاع على بعض المواقع المفيدة ذات المعلومات الثرية، مقارنة بكثرة المشاهدة لمحتويات هي النقيض من ذلك كله. وبينما يبرر ذلك في العادة أن اهتمامات الناس تتوجه نحو المحتويات غير المفيدة، قد يبرز تفسيراً آخر، هو أن الناس تتوجه نحو المحتوى الذي ينجح في جذب اهتمامها مهما كان تخصصه.

ويمكن تخيل حجم المنافسة، حينما تكون المعلومة «وهي السلعة» رخيصة نسبياً، وحجم العرض منها غير منتهٍ، في حين أن الطلب - المتمثل في عدد البشر والساعات المتوفرة لديهم للاطلاع على هذه المعلومات – محدود جداً. ولذلك فقد ظهر العديد من الممارسات والأدوات التي تهدف بشكل أساسي إلى جذب الانتباه والمحافظة عليه لأطول وقت ممكن. النقطة الأخيرة تحديداً هي أحد أهم أسباب نجاح «تيك توك» الذي طوّر خوارزمية مذهلة تنجح بشكل متكرر في إبقاء العيون متنقلة من مقطع إلى آخر. وهذا هو جوهر المنافسة بين الشركات من وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها، بل حتى بين المشاهير الذين يسعى الكثير منهم للبقاء في الصورة بجذب الانتباه بشتى الوسائل الممكنة، فعندما يغيب أحدهم عن المشهد لوهلة، يبقى محتواه دون مشاهدة حتى وإن لم تتغير جودة هذا المحتوى.وقد طورت الشركات أدوات متقدمة لضمان جذب الانتباه، منها جمع بيانات المستخدمين، وتوجيه الإعلانات لهم بحسب تفضيلاتهم، وإظهار المحتوى الذي يتناسب مع توجهاتهم، أو حتى المستفز لمبادئهم، كل ذلك لضمان استمرارية المستهلك معهم. والأمثلة على كل هذه السلوكيات مُشاهدة من غالبية مستخدمي وسائل التواصل، الذين عادة ما يدركون هذه الأساليب، ولكن لا يمكنهم مقاومتها؛ لأنها تستخدم أساليب نفسية محكمة تدرك سلوكيات البشر إدراكاً عميقاً، وتجيد التعامل مع المستهلكين باستخدام تقنيات صُممت لهذا الغرض، من شركات يتمحور نشاطها الأساسي حول جمع وتحليل البيانات الشخصية للمستهلكين، وبالطبع يحدث ذلك في شبه غياب لقوانين حماية البيانات الشخصية. وقد يمتد التنافس بين الشركات للاستحواذ على أطول وقت ممكن من المستخدمين إلى أبعد من ذلك، فقد صرح الرئيس التنفيذي لـ«نتفليكس» في وقت سابق بأن منافسيه ليسوا «سناب تشات» و«يوتيوب» فقط، بل إن أكبر منافسيه هو النوم الذي يبعد المشاهدين عن الشاشات!

إن معرفة الأساليب التي تستخدمها الشركات لجذب المستهلكين مهمة جداً، فهذه الأساليب تستخدم باحترافية لسرقة الوقت، وتشتيت الانتباه، وجذب الاهتمام إلى ما هو في صالح الشركات، وليس على كل حال في صالح المستهلك. وقد أظهرت دراسة أن الإنسان في المتوسط يحتاج إلى نحو 20 دقيقة ليستعيد تركيزه بعد أن يُشتت. وفي وقت تتطور فيه هذه الأساليب بشكل مطّرد، يسقط الكثير من الناس في فخ هذه الأساليب غير مدرك أن اهتمامه هو السلعة النادرة التي تتنافس عليها الشركات.

 

 

نقلا عن الشرق الأوسط