كل عام وأنتم بخير، والأمة الإسلامية جميعا في أمن وسلام ورخاء، ومع هلال هذا الشهر العظيم، شهر الرحمة والمغفرة والتراحم بالدعوات والصدقات، فإن هناك أحداثا مرت على الاقتصاد العالمي خلال الأسابيع الماضية، أهمها على الإطلاق المظاهرات التي شهدتها فرنسا ضد نظام التقاعد، وثانيها انهيار عدد من البنوك الأمريكية، واستمرار رفع الفائدة، واللقاء بين الرئيسين الروسي والصيني، وبخلاف المظاهرات ضد التقاعد فإن باقي الأحداث تعد عادية وشهد الاقتصاد العالمي كثيرا منها سابقا، وفي عالم إدارة المخاطر فإن حدوث انهيار لأي بنك هو أمر قائم ومحتمل، وله تفسيرات اقتصادية عديدة موجودة، وهناك دراسات لا حصر لها عن فشل المنشآت وانهيار أسعار الأسهم، وهناك دراسات أخرى كثيرة عن عدم قدرة المراجع الخارجي على التنبؤ الصحيح باستمرار المنشآت، كل هذا مرصود في البحث العملي، فمثل هذه الظواهر ليست حديثة بل تكررت بعدد لا يكفي هذا المقال لحصرها، وفي كل مرة تصاب الأسواق المالية بحالة من الهلع، وتقلبات في أسعار الصرف، ثم تعود لتجد توازنا جديدا.
وفي شأن حديث الرئيس الصيني مع نظيره الروسي والعالم الجديد والتغيرات التي لم تحدث من قرن كامل، كل ذلك معتاد تماما، وقد قال الرئيس الأمريكي مع انهيار الاتحاد السوفييتي مثل هذا وأكثر وعن نظام عالمي جديد، وأما أسعار الفائدة فليست المرة الأولى التي تحدث، وتقلباتها تصنع أرباح البنوك، ولذلك ستظل متقلبة طالما هناك بنك وعملة وقرض، فلا جديد، لكن ما يميز هذه الأحداث عن غيرها هو أمران معا، الأول أنها تأتي في ظل فقدان السيطرة تماما على ما يتم نشره في الإعلام العالمي، فوسائل التواصل الاجتماعي كمنصات إعلامية جديدة تصنع كثيرا من الهالة الإعلامية على هذه الأحداث، ما يشعر البعض منا بأنها مختلفة هذه المرة الأولى وأنها نهاية البشر، والثاني وهو الأهم في نظري أنها تأتي في ظل ارتفاع أسعار النفط، هذه هي القضية التي يمكنها أن تصنع اتجاهات غير معتادة جزئيا، لكنها لن تخرج عن المسار.
لكن تظل المظاهرات في فرنسا في نظري الحدث الأبرز والأكثر خطورة على الاقتصاد العالمي بل النظام العالمي بأسره، فقد اندلعت هذه الاضطرابات منذ أن قرر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون المضي قدما في إصلاحات التقاعد ورفع سن التقاعد من 62 إلى 64، فهل تبدو المسألة معقدة جدا لتستحق كل هذا العنف الذي ظهر على الشاشات؟ وهنا عدد من الحوارات الساخنة في فرنسا التي نقلتها وكالات الأنباء أولها أن حكومة ماكرون قررت استخدام المادة (49.3) لتمرير القانون وهي مادة تتيح للرئيس أن ينقل الموضوع لمجلس الشيوخ دون المرور على البرلمان "الغرفة الأدنى" وبررت الحكومة ذلك لأن تغيير نظام المعاشات أصبح ضروريا من أجل ضمان عدم انهيار النظام التقاعدي بالكامل، ولهذا فقد صدر القانون دون المرور عبر الدوائر الديمقراطية المعتادة في فرنسا، ما جعل كثيرين يرون في الرئيس إيمانويل ماكرون ديكتاتورا ومنكرا للديمقراطية، لكن رئيسة مجموعة حزب "النهضة" تدافع عن حكومة الرئيس وتصف الأحزاب المعارضة بالانقسام وعدم المسؤولية، ورغم أن المعارضة طالبت بسحب الثقة لهذه الإجراءات غير المسبوقة فقد نجحت الحكومة الفرنسية من سحب الثقة، ما يدل على حالة انقسام هائلة بشأن القرار وآلياته.
وفي جانب آخر، وبسبب تشدد الحكومة فقد أضرب عمال النظافة فتراكمت آلاف الأطنان من القمامة في شوارع باريس، ولم يتم تسليم شحنات الوقود لجميع المصافي الفرنسية، وردا على هذا قال لوران بيرجيه أمين عام الكونفدرالية الفرنسية الديمقراطية للعمل: إن تغيير الحكومة أو رئيس الوزراء لن يخمد هذا الحريق، بل سيوقف الإصلاح فقط، ولأن العقلاء في فرنسا يرون أن إصلاح التقاعد لا مفر منه فقد نجحت حكومة ماكرون في تمرير ذلك حتى الآن، وخطورة هذا الحدث المهم ومآلاته، أن فكرة رفع سن التقاعد مطروحة في كل العالم وكل الدول تقريبا بل هي الحل الأقرب، فلو جاءت ردة الفعل في كل العالم بهذا العنف فإننا أمام مشاهد في غاية الخطورة، بل انهيارات خطيرة، فليست كل الدول مثل فرنسا، وليست كل الاقتصادات تتحمل ما يتحمله الاقتصاد الفرنسي، وإذا قررت الدول والحكومات تأجيل فكر الإصلاح فكما قال لوران بيرجيه تماما، لن يتم إيقاف الحريق، فما الحريق الذي يقصده؟ لقد استقرت العلاقات بين العمال والحكومات والرأسمالية والاشتراكية عموما عند توازن صناديق التقاعد التي سمحت بضمان حياة كريمة للعمال في نهاية أعوام العمل، مع ضمان وظائف للعمال الجدد، وهو توازن مهم جدا لكنه لم يعد يعمل بشكل صحيح، وذلك نظرا لعدة أسباب، أولها زيادة أعداد المتقاعدين بشكل أصبح يفوق قدرات كل المؤسسات والصناديق على تغطيته، والثاني شدة المنافسة والصراع في الأسواق بين الصناديق للفوز بالعوائد التي تتناقص باستمرار، كل هذه القضايا تجعل من المستحيل البقاء على الطريقة نفسها التي نجحت حتى بدايات القرن الحالي، لكن الحلول شبه معدومة، حتى حلول فرنسا ستكون لمدة محدودة قبل اندلاع الصراع مرة أخرى، خاصة أن رفع سن التقاعد يعني ارتفاع نسب البطالة بين الجيل الجديد، وإذا انهار نظام التقاعد في العالم فلا بديل قائم سوى فوضى رسمت باريس في أسبوع واحد جزءا من لوحتها القاتمة والمرعبة.
نقلا عن الاقتصادية