بحسب الهيئة العامة للإحصاء بلغ إجمالي الإنفاق على البحث والتطوير لـ2021 في المملكة 14.5 مليار ريال، نصف هذه المصروفات من نصيب القطاع الحكومي، و35 في المائة صرفها القطاع الخاص على البحث والتطوير، والـ15 في المائة المتبقية من نصيب قطاع التعليم.
أولا، هناك اهتمام كبير بمجال البحث والتطوير في المملكة نجده في أعلى الهرم، حيث يرأس ولي العهد لجنة عليا تشرف على البحث والتطوير والابتكار وتقوم بتحديد الأولويات والتطلعات الوطنية الخاصة بذلك.
وقد تم إنشاء هيئة تنمية البحث والتطوير والابتكار لتعمل ممكنا ومشرعا ومنظما لهذا القطاع. وبحسب الهيئة العامة للإحصاء بلغ عدد العاملين في القطاع أكثر من 30 ألف عامل، منهم 25 ألفا يعملون باحثين.
في المقابل نسمع دوما عن مستويات صرف مهولة على البحث والتطوير في دول أخرى، بالذات أمريكا وأوروبا، بشكل لا يدع مجالا للمقارنة بمستويات الصرف لدينا، من ذلك ـ على سبيل المثال ـ ما صرفته شركة أمازون الأمريكية في 2022 على البحث والتطوير بمقدار 175 مليار ريال، أي 12 ضعف ما تم صرفه في المملكة من قبل القطاعين الحكومي والخاص وقطاع التعليم.
بينما نجد كذلك أن مستويات الإنفاق لكل من شركات جوجل وأبل ومايكروسوفت، على التوالي: 128 و88 و75 مليار ريال.
ما سبب التباين الكبير في مستويات الإنفاق بين هذه الشركات وبقية دول العالم؟
لن أتحدث هنا عن أهمية البحث والتطوير، لكون ذلك أمرا بديهيا ومعروفا، ولا عن فائدتهما للشركات في تطوير الخدمات والمنتجات وأهمية ذلك في مجال المنافسة والاستمرارية، لكن لنبدأ بطرح التساؤل عن حقيقة هذه الأبحاث والأعمال التطويرية التي تقوم بها الشركات، وهل هي بالفعل أعمال بحث وتطوير حقيقية، أم أن هناك أمورا أخرى قد تساعدنا على فهم هذه الأرقام المهولة؟
لندع الشركات العملاقة جانبا وننظر إلى مستويات الصرف على البحث والتطوير لدى شركات أخرى أصغر حجما من هذه الشركات، ونحاول تبرير مستويات الإنفاق لديها.
لو أخذنا شركة أوبر لسيارات الأجرة الخاصة مثالا، فسنجد أنها تصرف أكثر من عشرة مليارات ريال سنويا، وتصرف شركة الضيافة "أيربي آند بي" نحو ستة مليارات ريال سنويا، وشركة السفريات والطيران إكسبيديا نحو أربعة مليارات ريال، وشركات أخرى كثيرة بمستويات صرف تصل أحيانا إلى أكثر من 13 في المائة من الإيرادات. ما السبب؟
غني عن القول أن شركة مثل "أوبر" ليس لديها من المنتجات الجديدة أو الأعمال التطويرية ما يتطلب إنفاق عشرة مليارات ريال سنويا، فالشركة عبارة عن تطبيق إلكتروني يعمل على الهواتف المحمولة تم تطوير نسخته الأصلية، كما يشاع، من قبل شخص مكسيكي وزوجته خلال أشهر قليلة.
ولا شك أن التطبيق يحتاج إلى بعض الأعمال التطويرية والإضافات بين الحين والآخر، لكن لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تصل هذه التكاليف إلى عشرة مليارات ريال سنويا؟
السبب الحقيقي في ارتفاع مستويات الإنفاق على البحث والتطوير يعود إلى فوائد ضريبية تستفيد منها الشركات التي تمارس أعمال بحث وتطوير دون سواها، إضافة إلى برامج تحفيز خاصة بالبحث والتطوير عبارة عن نقاط ائتمانية تأتي أحيانا بصورة نقدية للشركات المؤهلة لذلك.
في 1981 أقرت هيئة الضرائب الأمريكية تسهيلات ضريبية خاصة بالبحث والتطوير، تمكن الشركات من خصم مصروفات البحث والتطوير من هامش الربح قبل احتساب الضرائب، فينتج عن ذلك خفض كبير في مستحقات الضرائب.
بل إن التنظيم يسمح للشركات بالاستفادة من هذه التسهيلات لمدة 20 عاما مقبلة، بمعنى أن الشركات الناشئة التي ليست لديها أرباح في أعوامها الأولى تستطيع ترحيل مصروفاتها على مدى أعوام طويلة في المستقبل.
بدءا من 2022 حدث هناك تغير كبير في طريقة احتساب مصروفات البحث والتطوير من كونها مصروفات تشغيلية مستحقة الخصم وقت وقوعها، بحيث أصبح الآن لزاما على الشركات إجراء عملية إهلاك على مدى خمسة أعوام لعدة أصناف من مهام البحث والتطوير.
هذا يعني أن الشركة التي لديها مصروفات بحث وتطوير بمقدار مليار دولار لا تستطيع خصمها من فاتورة الضريبة الحالية، بل تقوم بتوزيعها على عدة أعوام، وبالتالي يقل حجم التخفيض المتحقق من تسهيلات الضرائب.
هذا التنظيم الجديد لن يغير من حجم الإنفاق على البحث والتطوير لأن أساس "التلاعب"، إن صح التعبير، يأتي في تصنيف المصروفات على أنها بحث وتطوير.
كثير من الشركات تتلقى بين الحين والآخر خطابات من مصلحة الضرائب تطالبها بتوضيح طبيعة مصروفات البحث والتطوير وإبرازها كبنود مستقلة في بياناتها المالية لتتمكن مصلحة الضرائب من الاطلاع عليها، وكذلك ليتمكن المستثمرون من اتخاذ قرارات سليمة بشأنها.
هناك فسحة لدى الشركات في تصنيف المصروفات على أنها خاصة بالبحث والتطوير على الرغم من ضوابط مصلحة الضرائب التي تشترط أن تكون المصروفات ذات طابع تقني، وأن تكون مرتبطة بمنتجات الشركة وخدماتها الأساسية وغير ذلك من شروط.
لكن يبدو أن الشركات لديها طرق محاسبية تمكنها من تسجيل مصروفات كبيرة ومتنوعة على أنها بحث وتطوير.
لذا علينا ألا نأخذ أرقام الإنفاق على البحث والتطوير على أنها بالفعل جهود متعلقة بالبحث والتطوير بشكل مباشر، بل كما يحدث عند محاولة تفسير حالات كثيرة نجد أن الضريبة تلعب دورا كبيرا في تغيير قواعد العمل وفي صحة ودقة ما يظهر هناك من بيانات.
نقلا عن الاقتصادية