انتهت قبل أيام فعاليات مؤتمر دافوس الذي ينظمه منتدى الاقتصاد العالمي منذ 1971 وحتى الآن. هذا المؤتمر الذي يُعد أحد أكبر المؤتمرات الدولية من ناحية مستوى التمثيل من الدول والشركات، وهو يهدف إلى خلق منصة يجتمع فيها القادة الاقتصاديون للعالم لإيجاد حلول للمشكلات العالمية. هذا المؤتمر هو أهم حدث ينظمه منتدى الاقتصاد العالمي، ليس من ناحية حجم الحدث فحسب، بل حتى من الناحية المادية؛ فهو يدر الملايين على المنتدى، ويكفي معرفة أن تذكرة الحضور تربو على 19 ألف دولار، وهي للأعضاء المدعوّين فقط الذين تكلف عضويتهم نحو 52 ألف دولار سنوياً، وهناك تكاليف إضافية لمن أراد حضور الفعاليات القطاعية تزيد على 140 ألف دولار، إضافةً إلى تكاليف المرافقين التي تصل إلى 500 ألف دولار لخمسة مرافقين فقط! ولكن الحضور لهذا المنتدى يزيد كل عام، وحتى مع غياب العديد من قادة الدول هذا العام، فإن الزخم تجاهه لم يخف. وقد خرج المؤتمر بانطباع استغربه الكثيرون بالنظر إلى الأحداث العالمية، وهو التفاؤل تجاه الاقتصاد العالمي لهذا العام!
أولى نقاط التفاؤل هي فتح الصين أبوابها وانتهاؤها من سياسة «صفر كوفيد» بعد ثلاث سنوات من الانعزال والعزل، وقد تأثر العالم بأكمله من هذه السياسة في هذه السنوات، سواء من ناحية العرض أو الطلب. وبينما كان صندوق النقد قد توقع أن تنمو الصين بنسبة 2.7 في المائة، تغيرت هذه التوقعات إلى 4.5 في المائة، وصرح مسؤولو الصين بأنها قد تعود مرة أخرى بمعدلات نموها السابق في السنوات القليلة القادمة. كما يتفاءل العالم بالإنفاق الذي قد يأتي من الصينيين الذين لم يتمكنوا من الإنفاق الاستهلاكي خلال الثلاث سنوات الماضية بسبب الإغلاق، لا سيما أن السياحة في العديد من الدول تعتمد على السيّاح الصينيين.
ثاني أسباب التفاؤل يرتبط بالصين كذلك، ولكن ليست وحدها؛ فالأخبار تشير إلى لقاءات عالية المستوى بين مسؤولي الصين والولايات المتحدة، وهو ما يعني أن اتجاه النزاع بين أكبر اقتصادين في العالم قد يتغير في الفترة القادمة. هذا التغير مدفوع من كلا الطرفين؛ فالصين قد تتضرر من سياسة الولايات المتحدة في منع تصدير بعض المنتجات الحيوية لها مثل الرقائق الإلكترونية المتقدمة، والولايات المتحدة قد تضطر إلى مسايرة الصين، خاصة أن حليفها الاتحاد الأوروبي أوضح خلال دافوس، وبكل وضوح، أن الصين جزء أساسي من المكوّن الاقتصادي العالمي، ولا يمكن إقصاؤه كما تريد الولايات المتحدة.
ثالث أسباب التفاؤل هو أداء سوق الأسهم في العالم في الثلاثة أسابيع الأولى من العام الجديد؛ فبعد أن فقدت أسواق الأسهم معظم مكاسبها خلال العام الماضي، وبدا كأن مؤشر الأسهم في انحدار غير منتهٍ، عادت المؤشرات لترتفع قليلاً بداية هذا العام، مغيّرة النمط الذي استمرت عليه في آخر ربعين من السنة الماضية على الأقل.
ولم تخلُ التوقعات ولا الجو العام من التشاؤم كذلك، وأسبابه شبه معروفة، وهي الحرب الروسية - الأوكرانية، ومعدلات التضخم العالمية، وعدم استقرار سلاسل الإمداد في ظل النزاعات الجيوسياسية. وقد لا تلفت هذه الأسباب الانتباه، إلا أن سبباً واحداً قد يركّز عليه العالم في الفترة المقبلة، وهو بوادر الخلاف بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي حول نظام تخفيض التضخم؛ فمنذ أن أقرت الولايات المتحدة هذا النظام، ثارت ثائرة المسؤولين الأوروبيين الذين يرون افتقار النظام للعدالة.
ونظام تخفيض التضخم الأميركي ليس كما يبدو في ظاهره، وتسميته بهذا الاسم لها أهداف انتخابية من الإدارة الأميركية. وهو يعطي ميزات للشركات المستثمرة في الطاقة النظيفة، وقد يسحب العديد من الشركات الأوروبية إلى العمل في الولايات المتحدة بسبب الحوافز الضريبية التي تقدمها الحكومة الأميركية. كذلك يعطي النظام حوافز للأفراد؛ فعلى سبيل المثال، يعوّض النظام الأفراد المشترين للسيارات الكهربائية بنحو 7500 دولار في حال صُنعت هذه السيارات في أميركا الشمالية. واللافت في الأمر أن التقارير الصحافية تشير إلى أن الأميركيين، حتى الآن، لا يعبأون بردة الفعل الأوروبية، ولا يرون أن الأوروبيين محقون في احتجاجاتهم.
إن عنوان مؤتمر دافوس لهذا العام لهو معبّر بشكل رائع عن العالم؛ فقد عنون بـ«التعاون في عالم مجزّأ»، ففي وقت بدأ فيه حتى الحلفاء في الاختلاف في القضايا الاقتصادية التي تخدم نفس التوجه السياسي، يحتاج العالم بالفعل إلى التعاون وإلى منصات تشبه دافوس لإيجاد أرض مشتركة بين الدول المتخالفة. ولا يمكن إنكار أن الازدهار الذي شهده العالم في العقود الماضية، كان التعاون بين الدول هو أهم أسبابه، والفعالية الناشئة من هذا التعاون كانت سبباً رئيسياً في رفاهية الشعوب، سواء بخفض التكاليف أو بالابتكار النافع للبشرية. وفي وقت تكثر فيه الخلافات والحديث عن الفصل الاقتصادي بين الشرق والغرب، تبرز أهمية هذه المؤتمرات العالمية التي وإن كان التركيز فيها إعلامياً على رفاهية الحدث، فإن ما يدور فيها من حوار هو الأهم.
نقلا عن الشرق الأوسط