يبدو شعار هذا العام للمنتدى الاقتصادي الأهم بالعالم والذي يعقد سنوياً في منتجع دافوس الشتوي بسويسرا متناقضاً في ظاهره، إذ كيف سيتحقق التعاون في زمن الانقسام العالمي الواسع النطاق، وفي الوقت ذاته فإنه أيضًا يعد تعبيراً منطقياً واعترافاً صريحاً بالواقع الدولي حتى تكون الصورة واضحة وجلية للمشاركين، فهم نخبة من القادة والسياسيين والمختصين والمستثمرين، أي أنهم في قلب الحدث العالمي ولدى الكثير منهم القدرة على اتخاذ قرار التحول من الانقسام بين دولهم ومنافسيهم للتعاون، فمنظمو المؤتمر حرصوا أن يرى كل مشارك كيف تنظر شعوب الأرض لما يحدث في زمن العولمة التي ببدو أن مستقبلها غامض مع كل هذه الخلافات بين دول كبرى، إضافة للأحداث الجيوسياسية التي انتقلت تداعياتها لمناطق عديدة بالعالم وساهمت بجموح التضخم ونقص بإمدادات الغذاء والعديد من السلع، فالركود الاقتصادي المحتمل بكثير من دول العالم والتضخم والحروب التجارية، هذا ما يحمله جسد الاقتصاد العالمي عندما يدخل بأثقاله المحمل بها إلى قاعات اجتماعات وحوارات دافوس على أمل أن يبدأ المشهد الدولي بالتغير لتحسين الحالة الصحية له.
فانقسامات العالم اليوم عديدة وبملفات متنوعة، فالعامل الصحي بسبب جائحة كورونا ما زال حاضراً بتداعياتها سواء بمشاكل سلاسل الإمداد أو بضعف النمو في الصين ثاني أكبر اقتصاد عالمي والتي ما أن غيرت سياستها لفتح الاقتصاد والحياة العامة والابتعاد عن صفر كوفيد حتى زادت الإصابات بشكل كبير جداً، ولا يُعرف كيف سيتم احتواء التفشي للفايروس في وقت قريب، لكن يبقى الملف الأهم أثر حرب روسيا على أوكرانيا، فما يبدو أنه انقسام بين موسكو والقوى الغربية بقيادة أميركا ما هو إلا جزء من انقسامات عديدة ظهرت، فالأوروبيون منقسمون حول العقوبات على روسيا وهم أصبحوا أكثر من أي وقت مضى بحاجة لأميركا رغم رغبتهم أن يستقلوا بقراراتهم عنها، فأوروبا لا يمكن لها أن تدافع عن نفسها من أي خطر بتوسع روسي بالحرب دون وجود أميركا التي يمكن لها هي فقط أن تحد من طموحات روسيا التوسعية، وفي الوقت ذاته فإن تعويض إمدادات الغاز الروسي بالأميركي الذي يباع عليهم بأربعة أضعاف سعره داخل أميركا وجَّه ضربة كبيرة للصناعة الأوروبية وهو ما يهدد الكثير من مصانعها بالإفلاس أو الإغلاق المؤقت، فعاملا القوة العسكرية الأمريكية وانتقال ملف أمن الطاقة الأوروبي ليصبح التأثير الأكبر فيه من أميركا سيعني أن أوروبا ستبقى تسير في ظل أميركا لعقود، وهو ما تريده واشنطن لتبقي حليفاً يدعمها بتحقيق مصالحها وكذلك تحد من منافسته لها مستقبلاً، كما أنها بضعف اقتصاد دول اليورو فهي أضعفت قدرت العملة الأوروبية على منافسة الدولار في حجم الاحتياطات العالمية من العملات وكذلك في تعاملات التجارة الدولية، فهي حققت أكثر من هدف بهذه الحرب التي تريد منها واشنطن أيضاً إضعاف روسيا لتعزلها عن التحالف مع الصين، ولكن ما قامت به أميركا من إصدار قانون الحد من التضخم شكَّل ضربة إضافية لتنافسية الصناعة الأوروبية مع نظيرتها الأمريكية خصوصاً أن حجم التيادل التحاري بينهم يصل إلى 1.3 تريليون دولار سنوياً، فهذا القانون قد يمثل بداية حرب تحارية بين حليفين تقليديين منذ عقود طويلة، وهو ما حذَّر منه وزير المالية الألماني، فيما طلب زميله وزير الاقتصاد أن تعقد اتفاقية تجارية جديدة مع أميركا مما يوضح أن الانقسامات تشبه الشبكة العنكبوتية داخل أوروبا وبين أوروبا وأميركا وجميعهم إضافة لكندا وأستراليا واليابان مع روسيا.
أما الانقسامات الأخرى بالعالم فأميركا أيضاً طرف فيها، وهذه المرة مع الصين حيث تحشد الحلفاء ضد بكين للحد من توسعها الاقتصادي وعلاقاتها الخارجية وتحاول استفزازها بملف تايوان حتى تدفعها لحرب تستنزفها وتشتت خططها الاقتصادية الداخلية والخارجية، فالصين الأعلى نموًا بالانفاق العسكري عالمياً وبكل تأكيد تستعد لمرحلة تدافع عن مصالحها خارج حدودها إذا احتاجت لذلك وبالوقت ذاته يشارك أميركا بعض الأوروبيين وغيرهم من حلفاءها في آسيا اليابان تحديدًا النظرة لخطر الصين عليهم وفق تصريحاتهم المتكررة مما يضع العالم أمام انقسام إضافي خطير يتمثل بحروب تجارية لن تتوقف وستطول مدتها إذا لم يتوصلوا لتفاهمات تضمن مصالح الجميع وتنزع فتيل أي حرب محتملة، لكن الانقسامات لا تقف عند هذه الملفات فقط فملف المناخ الذي يحضر بقوة على أجندة منتدى دافوس مليء بالانفسامات حوله، فالغرب يريد أن يحمل الوقود الأحفوري مسؤولية تغير المناخ وهو ما يعد تجنياً وتضليلاً كبيراً من دول لم تزدهر اقتصادياً إلا بهذا الوقود الذي صنع اقتصادهم بتكلفته المنخفضة قياساً بأهميته البالغة، فهم يأخذون الضرائب العالية على استهلاكه داخل دولهم ولا يستثمرون في إنتاجه وزيادة الطاقات الإنتاجية عالمياً منه، فالمنتجون هم من ينفقون أموالاً ضخمة باستثمارات النفط والغاز وتستفيد الشركات الغربية كثيرًا من هذه الاستثمارات تحديدًا العاملة بمجال مقاولات النفط والغاز وتقنيات الاستكشاف والحفر وغيرها، وكذلك فإن بورصاتهم تزدهر بتعاملات تريليونية سنوياً من خلال تجارة النفط والغاز ومشتقاتها، فمصانعهم واقتصاداتهم هي المتسبب الأكبر بالانبعاثات الكربونية، وغندما يريدون إيجاد حل لها يتجهون لعامل واحد بشكل كبير وهو الوقود الأحفوري ويتغافلون عن بقية العوامل، فالعدل أن تتم المعالجة لكل الملفات على المستوى نفسه من الأهمية، فلا يمكن أن تدفع الثمن الدول المنتجة للطاقة التقليدية بينما تمتعوا هم بالرفاه الاقتصادي لعقود مضت دون ثمن حقيقي، لذلك يتحملونه هم، فالسياسة الغربية تتغلغل بعروق ملف المناخ، وقد يراها البعض جزءًا من محاولة بقاء هيمنتهم الدولية التي بدأت تذبل، فالعالم تغير ويستعد لأقطاب جديدة تتحضر لتكون لاعباً رئيسياً بالساحة الدولية اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً وثقافياً، ولا يمكن أن تولد هذه الأقطاب دون مخاض عسير وانقسامات ومواجهات، فالواقع يفرض نفسه.
الانقسامات الدولية أصبحت مسلمًا بها والتعايش معها لفترة من الزمن أصبح واقعاً، فكل دولة تريد أن تكون قطباً تعرف وتعي مصالحها، ولا يمكن أن تتنازل عنها بل ما يطرحونه هو فقط الجلوس للتفاوض على تفاهمات كيف يضمن كل طرف مصالحه ويقبل بذلك بقية الأطراف، فهم يتحدثون مباشرة مع بعضهم بلغة فيها مكاشفة وشفافية، ولكن المشكلة أن كل هذه الانقسامات تهدد الدول النامية والفقيرة بعواقب اقتصادية وخيمة وتنذر بأزمات غذاء ودواء وتخلف عن سداد الديون، وكذلك عدم القدرة على تلبية التزاماتها لمواطنيها مع تضخم جامح وضعف بعملاتها وركود باقتصاداتها مما يعني المخاوف من اضطرابات داخلية فيها، فالعالم اليوم يتمنى زوال هذه الانقسامات وأن يكون منتدى دافوس فرصة لبداية جديدة نحو عالم يسوده التعاون.
نقلا عن الجزيرة