السيطرة على التضخم .. التكلفة والخيارات «2 من 2»

18/01/2023 1
عبد الحميد العمري

أكدت النشرة الأخيرة للهيئة العامة للإحصاء استقرار معدل التضخم السنوي خلال 2022 عند 2.5 في المائة، ويعد الأدنى مقارنة بمستواه خلال العام الأسبق 2021 الذي بلغ 3.1 في المائة، وأدنى أيضا من مستواه خلال 2020 الذي بلغ 3.4 في المائة، ورغم تلك المستويات المتدنية لتحرك معدل التضخم طوال الثلاثة أعوام الماضية، إلا أن المعدل في منظور الفترة 2020-2022 سجل ارتفاعا إجماليا وصل إلى 9.3 في المائة، ويعد أيضا أدنى من المعدلات المماثلة له في أغلب الدول حول العالم، لكن بما أنه جاء خلال العامين اللذين سبقا 2022 أعلى من معدلات النمو الاقتصادي والفائدة، فقد يكون للارتفاع المطرد لمعدل الفائدة خلال العام الماضي، إضافة إلى السرعة القياسية للنمو الاقتصادي، دور مهم في خفوت الآثار التضخمية في الجزء الأخير من الفترة، التي تضمنت أيضا نموا متسارعا في عديد من البنود الرئيسة المكونة لمعدل التضخم، جاءت تحركاتها بمعدلات أسرع خلال الفترة نفسها، كبند الأغذية والمشروبات وبند النقل اللذين ارتفعا خلال 2020-2022 بـ19.2 في المائة، وبند المطاعم والفنادق 14.5 في المائة، إضافة إلى بند الاتصالات بارتفاعه 13.1 في المائة، وبند تأثيث وتجهيزات المنزل بارتفاعه 10.3 في المائة، وهي المعدلات الأعلى مقارنة بالنمو الذي طرأ على الرقم القياسي العام للتضخم الذي بلغ 9.3 في المائة كما سبق ذكره أعلاه.

كما تمت الإشارة إليه في الجزء الأول من المقال، من بقاء التضخم مرتفعا كأحد أبرز التحديات التي ستواجه الاقتصاد العالمي خلال 2023 وقد تمتد إلى 2024، رغم جهود وسياسات البنوك المركزية لأجل كبحه. محليا، سيظل التضخم تحديا قائما أمام توقعات تباطؤ معدل النمو الاقتصادي إلى ما بين 3.0 و4.0 في المائة خلال 2023، ويزداد تحديه متى ما تجاوز معدلات النمو تلك، في الوقت الذي ستظل معدلات الفائدة عند أعلى مستوياتها التاريخية "أعلى من 5.0 في المائة"، ورغم أن الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي غير عابئ بارتفاع معدل البطالة في الاقتصاد الأمريكي "عند أدنى مستوياته التاريخية"، والتضحية بذلك لأجل كبح جماح التضخم، فقد لا تكون تلك التضحية معترفا بها لدى اقتصادات أخرى كاقتصادنا الوطني، الذي يسعى جاهدا إلى كبح معدل البطالة، والاستمرار في جهود خفض المعدل، كجزء رئيس من برامج ومبادرات رؤية المملكة 2030، بغض النظر عن المعطيات الراهنة في الاقتصاد العالمي أو الأمريكي.

يقوم الرهان الاقتصادي محليا في طريق كبح البطالة على القطاع الخاص بالدرجة الأكبر، ولهذا جاء التأكيد على أهمية السياسات والبرامج الكفيلة باحتفاظ القطاع الخاص بالإمكانات والقدرات اللازمة لوفائه بهذا المتطلب التنموي منه، أخذا في الحسبان ما سبقت الإشارة إليه في الجزء الأول من المقال، بأبرز ما سيواجه القطاع من تحديات مقبلة، هي بمنزلة أكبر مصادر لارتفاع تكاليف تشغيله، أولا، ارتفاع تكلفة تمويل نشاطاته، نتيجة ارتفاع معدل الفائدة البنكية "تضاعف خمس مرات خلال 2022"، وهو التحدي الذي تواجهه مختلف نشاطات الاقتصاد عموما.

ثانيا، ارتفاع تكلفة عديد من واردات القطاع، سواء تلك التي تقوم بإعادة توزيعها محليا، أو تلك التي تدخل في عملياته الإنتاجية.

ثالثا، ارتفاع تكلفة الأراضي والعقارات "شراء، إيجارا"، وهو التحدي التشغيلي قديم العهد، ويشكل تحديا مستمرا ومتصاعدا للقطاع الخاص طوال العقود الزمنية الماضية.

إنها المصادر ذاتها التي ستغذي لاحقا ارتفاع معدل التضخم عموما، وارتفاع تكاليف المعيشة على أغلب الأفراد، وهي ذاتها أيضا التي قد تعيق من قدرة القطاع على المساهمة برفع معدلات التوظيف وكبح معدل البطالة بين الموارد البشرية المواطنة، وجميع تلك الآثار بالتأكيد ستكون ضمن أولويات السياسات والبرامج المعتمدة خلال الفترة الراهنة.

تعزيزا لتلك السياسات والبرامج، قد تسهم برامج التمويل والدعم الحكومية في التخفيف من آثار المصدر الأول "ارتفاع تكلفة تمويل نشاطات القطاع الخاص"، لكنها بالتأكيد لن تسهم في امتصاص تلك الآثار بصورة كاملة أو حتى قريب منها، وهو الأمر المفهوم من قبل الأطراف كافة، في مقدمتها القطاع الخاص نفسه.

وبالنسبة إلى المصدر الثاني "ارتفاع تكلفة الواردات"، فسيسهم تحسن قوة الريال لارتباطه بالدولار، في التخفيف أيضا من آثار هذا الجانب، ويتطلب في الوقت ذاته مزيدا من الرقابة على الأسواق المحلية من قبل وزارة التجارة، والتأكيد من قبلها على مختلف منشآت القطاع الخاص على الانعكاس الفعلي لتحسن قيمة الريال "والدولار" أمام عملات الدول المصدرة للبضائع والخدمات على مستويات الأسعار محليا.

نأتي الآن إلى المصدر الثالث "ارتفاع تكلفة الأراضي والعقارات شراء وإيجارا"، وهو المصدر الأقدم تأثيرا طوال الأعوام الماضية، وسبق الحديث عنه وتحليل أسبابه وآثاره العكسية على التنمية عموما، وتحديدا على استقرار كل من القطاع الخاص والمجتمع على حد سواء، والتركيز على مسارات حلوله المتعددة التي يتحمل تنفيذها عديد من الأجهزة بدءا من وزارة البلدية والإسكان وصولا إلى البنك المركزي، وأهمية زيادة فاعلية نظام الرسوم على الأراضي من خلال تشديد آلية احتساب وتحصيل الرسوم، مرورا بزيادة الضوابط المنظمة للقروض العقارية الممنوحة للأفراد خصوصا، لعل من أهمها تشديد ضوابط الاستقطاع بما لا يتجاوز 33 في المائة من صافي الدخل الشهري للمستفيدين، التي يؤمل أن تسهم مجتمعة في كبح الارتفاعات القياسية التي تشهدها السوق العقارية المحلية، سواء من حيث تكلفة تملك الأراضي والعقارات، أو من حيث تكلفة الإيجارات التجارية والسكنية، وما لهذا من نتائج إيجابية في تحسين مستويات الدخل وزيادة القوة الشرائية بالنسبة إلى الأفراد، إضافة إلى النتائج الإيجابية في خفض تكاليف الإنتاج والتشغيل بالنسبة إلى المنشآت والقطاعات الإنتاجية عموما، وما سيسهم فيه تحقق تلك النتائج من تخفيف ملموس للآثار المحتملة من المصدرين الأول والثاني المشار إليهما أعلاه، وسيستكمل بمشيئة الله تعالى تناول مختلف تلك الجوانب تباعا بالتحليل والبحث خلال الفترة المقبلة، نظرا إلى ما يحظى به من أهمية عالية في ظل التطورات المتتابعة خلال الفترة الراهنة.

 

 

نقلا عن الاقتصادية