سوق العقار .. انكماش السيولة وركود النشاط

11/01/2023 5
عبد الحميد العمري

تأثر النشاط العقاري خلال النصف الثاني من 2022 بدرجة شديدة بعديد من المتغيرات الرئيسة، التي اجتمعت عند سمات لافتة من حيث تسارعها الزمني، وكثافة ضغوطها على السوق، سرعان ما انعكست على نشاط السوق مقارنة بالنصف الأول من العام نفسه، بانخفاض قيمة صفقاته خلال الفترة بـ24.5 في المائة، وانخفاضها للقطاع السكني بـ34.4 في المائة، كما انخفض كل من عدد الصفقات والمبيعات بـ29.0 في المائة وبنحو 29.3 في المائة حسب الترتيب "انخفاض للقطاع السكني بـ31.6 في المائة لعدد الصفقات، وانخفاض حجم المبيعات بـ31.8 في المائة"، ما أفضى في ضوء تلك التغيرات القياسية إلى تراجع قيمة صفقات القطاع السكني إلى أدنى مستوى لها منذ النصف الثاني لـ2018 "50.1 مليار ريال" وتراجع عدد صفقات القطاع إلى 71.3 ألف صفقة، وتراجع حجم مبيعات القطاع إلى 73.2 ألف عقار مبيع، وتعد أدنى مستويات لهما منذ النصف الأول لـ2012.

تلخصت أبرز المتغيرات الرئيسة المؤثرة في النشاط العقاري عموما، وفي القطاع السكني تحديدا في، أولا: الارتفاع المطرد لمعدل الفائدة "تكلفة الرهن العقاري"، الذي قفز خلال أقل من تسعة أشهر من العام الماضي بنحو 500 نقطة أساس، وتحول خلال تلك الفترة الوجيزة من منطقة دعم النشاط حينما كان عند أدنى مستوياته التاريخية، إلى عامل ضغط على النشاط مع وصوله إلى أعلى مستويات له خلال 22 عاما مضت.

تأتي أهمية وثقل هذا العامل من الاعتماد الكبير لأغلبية المستهلكين على التمويل العقاري لأجل شراء المساكن، وأن كل ارتفاع في تكلفة الاقتراض من شأنه بالتأكيد أن يقلص من حجم السيولة التي سيتحصل عليها المشتري أثناء تنفيذ عملية الشراء، التي ستؤثر بدورها في سعر المسكن المحدد من قبل البائع.

ولا يقف تأثيرها عند المستهلك، بل يمتد أيضا حتى إلى المطورين العقاريين، الذين يشكلون الحلقة الأهم في النشاط العقاري، ولدورهم في تحويل الأراضي إلى منتجات عقارية متنوعة، وزيادة اعتمادهم على التسهيلات البنكية سواء لأجل شراء الأراضي، أو لأجل تطوير وإنشاء الوحدات السكنية.

لهذا تأثرت تدفقات السيولة في السوق سلبا، ودخلت السوق مرحلة من الركود على أثر انكماش السيولة اللازمة للنشاط، ودون إغفال دور الارتفاع أو التضخم في أسعار مختلف الأصول العقارية، التي كانت قد قفزت قفزات قياسية خلال الفترة 2019-2022 ما أبعدها كثيرا عن القدرة الشرائية والائتمانية لأغلبية المستهلكين.

ثانيا: انكماش حجم الإقراض العقاري للأفراد خلال الفترة نفسها بأكثر من 20 في المائة، وهو ما انعكس على قيمة صفقات القطاع السكني تحديدا وعلى النشاط العقاري عموما، وظهر جليا على تدني حجم مبيعات القطاع إلى أدنى مستوياتها خلال عقد كامل "منذ النصف الأول من 2012".

تم التعرف حتى الآن على حالة دخول السوق العقارية في حالة "الركود" الراهنة في شهرها الثامن على التوالي، وأنها في الأغلب جاءت نتيجة ارتفاع معدل الفائدة "تكلفة الرهن العقاري"، وتراجع حجم السيولة النشطة في السوق، وأيضا تراجع حجم الإقراض العقاري للأفراد.

لكن ماذا بعد استمرار "الركود" لفترة أطول مما حدث طوال الفترة الماضية، خاصة في ظل استقرار أسعار أغلب الأصول العقارية عند مستوياتها القياسية نفسها التي وصلت إليها؟!

اعتادت الأسواق العقارية عموما على التماسك والثبات أمام أي ضغوط تستجد عليها، لكن وفقا للتجارب السابقة لتلك الأسواق طوال العقود الزمنية الماضية، يظل لتماسكها وثباتها فترة زمنية معينة، سرعان ما تتنازل عنها لاحقا فتدخل في موجات تصحيح سعرية قد تمتد من عام إلى ثلاثة أعوام، ثم تستقر عدة أعوام عند مستويات عادلة سعريا إلى أن يستجد أي تغيرات على العوامل الرئيسة المؤثرة في نشاطها، كمعدل الفائدة وحجم الطلب والإقراض والنمو الاقتصادي على رأس تلك العوامل.

سابقا كانت فترة التماسك والثبات تمتد محليا إلى أكثر من عام إلى عامين، ويعود هذا إلى ندرة انتشار بيانات السوق والنشاط العقاري عموما خلال العقود الماضية، علما أن العامل الرئيس خلال العقود الماضية كان متمثلا في الإنفاق الحكومي بالدرجة الأولى، وليس الائتمان البنكي كما هو خلال المرحلة الراهنة من عمر النشاط العقاري.

لكن مع ارتفاع شفافية معلومات السوق العقارية كما تشهده الفترة الراهنة، التي وصلت إلى إمكانية التعرف مباشرة على نشاطها بصورة آنية ويومية، وسهولة الوصول إليها من جميع المتابعين والمستهلكين، كل هذا أدى إلى تقليص الفترة الزمنية لحالة التماسك والثبات التي اعتادت عليها السوق العقارية سابقا، ولهذا بدأ تأثير "الركود" العقاري محليا في الأسعار مع مطلع الربع الأخير من 2022، الذي انحصر على المواقع التي عرف عنها ارتفاع كعب المضاربة على الأراضي فيها، ووصلت نسب التراجع إلى معدلات راوحت بين 25 و35 في المائة حتى نهاية الأسبوع الأول من العام الجاري.

ومع استمرار "الركود" وضعف تدفقات السيولة وارتفاع الفائدة، سرعان ما ستتنقل تلك الآثار إلى بقية المواقع الأخرى التي تتسم بوجود طلب استهلاكي حقيقي فيها، وتخضع خلال الفترة الراهنة لزيادة المعروض من المنتجات السكنية المتنوعة، لتضاف إلى المخزون السابق الذي لم يتم شراؤه من قبل المستهلكين، نتيجة ما تقدم أعلاه من تحليل مرتبط بارتفاع معدل الفائدة وتراجع الإقراض العقاري، إضافة إلى تجاوز أسعارها لقدرة أغلبية المستهلكين، الذي سيؤدي في مجمله إلى مزيد من الضغوط على الأسعار، ودخولها في موجة تصحيح صحية جدا، سيؤدي استمرارها إلى توازن قوى العرض والطلب مستقبلا، ومن ثم ستشهد السوق عودة لنشاطها وارتفاعه مجددا بمشيئة الله تعالى. الله ولي التوفيق.

 

 

نقلا عن الاقتصادية