تعرضت ولا تزال مختلف الأسواق حول العالم لضغوط التحول في سياسات البنوك المركزية، من فسحة التسهيلات الواسعة، وضخ الأموال متدنية التكلفة، إلى التشديد النقدي ورفع تكلفة التمويل (معدل الفائدة)، لمواجهة الارتفاعات الأعلى لمعدل التضخم في منظور أكثر من أربعة عقود مضت.
وبالطبع ستمتد آثار تلك السياسات المركزية لاحقا لتنعكس على الاقتصادات الكلية بانكماش معدلات نموها، وقد تصل إلى تباطؤها وتراجعها، كما تتوقع البنوك المركزية قبل منتصف العام المقبل، وقد تتسبب في دخول عديد من الاقتصادات المتقدمة في مرحلة من الركود التضخمي، ومن ثم الاقتصاد العالمي برمته، ولن يقف الأمر عند تلك الحدود! بل سيحمل في ثناياه ارتفاعا في معدلات البطالة في أغلب البلدان، وزيادة احتمالات تعثر عديد من البلدان الأدنى دخلا والأعلى مديونية خارجيا بعملة الدولار الأمريكي، ما سيؤثر كثيرا في استقرار عديد من القطاعات التمويلية في البلدان المقرضة، ولا يتجاوز ما سبق سوى كونه جزءا من نتائج عكسية واسعة النطاق التي وضعتها البنوك المركزية في الحسبان.
تفاقمت خسائر أغلب الأسواق المالية العالمية خلال العام الجاري، وفقد جزء كبير منها أكثر من ثلث قيمته السوقية حتى الأسبوع الجاري، وجزء آخر وصلت خسائره الرأسمالية إلى ربع وخمس قيمتها، فمنذ مطلع العام الجاري وصلت الخسائر في الأسواق الأمريكية إلى نحو 20 في المائة في S&P 500، وإلى نحو 33 في المائة في ناسداك، وإلى نحو 10 في المائة في داو جونز، وكانت قد تجاوزت خسائره قبل أشهر قليلة سقف 22 في المائة.
وجاء وقع الخسائر الرأسمالية على الأسواق الأوروبية أشد وطأة لتأثرها بدرجة أكبر بآثار الصراع الروسي - الأوكراني وتبعات العقوبات الغربية على الاتحاد الروسي، وامتدت التراجعات إلى بقية الأسواق المالية في مختلف أنحاء العالم، ومنها بعض الأسواق في منطقة الخليج العربي، بانخفاض السوق السعودية بأكثر من 10 في المائة منذ بداية العام الجاري، وانخفاضها في قطر بنحو 6 في المائة، بينما تقلصت مكاسب بقية الأسواق الخليجية إلى ما دون 5 في المائة، باستثناء بورصتي أبوظبي ومسقط، اللتين حافظتا على ارتفاعهما منذ بداية العام بأعلى من 21 و16 في المائة على الترتيب.
وفي مرحلة لاحقة، بدأت آثار التشديد النقدي وارتفاع معدلات الفائدة في الانتقال إلى الأسواق العقارية والإسكان في أغلبية البلدان، بتأكيد أحدث بيانات بنك التسويات الدولية BIS عن الربع الثاني من العام الجاري، بزيادة أعداد الأسواق العقارية في مختلف دول العالم (58 سوقا عقارية)، التي سجلت انخفاضات سنوية في أسعار المساكن فيها مع نهاية الربع الثاني من العام الجاري إلى 25 سوقا عقارية، مقارنة بـ16 سوقا خلال الربع الأول من العام نفسه، ومقارنة بـ11 سوقا خلال الربع الثاني من العام الماضي، وارتفعت على أثر ذلك نسبة الأسواق الخاسرة إلى إجمالي الأسواق العقارية حول العالم إلى 43.1 في المائة، مقارنة بنسبتها 27.6 في المائة خلال الربع الأول 2022، وبنسبة 19.0 في المائة خلال الربع الثاني من العام الماضي، وهي النسبة الأعلى التي سجلتها الأسواق العقارية الخاسرة المسجلة منذ الربع الثالث 2013، ويتوقع أن تتسع نطاقات التراجع في أداء تلك الأسواق خلال العامين المقبلين على أقل تقدير، بالتزامن مع توقعات استمرار ارتفاع معدلات الفائدة وسياسات التشديد النقدي الممارسة من قبل البنوك المركزية.
وأخذا في الحسبان التباين الكبير بين الاستجابة الآنية للأسواق المالية من جانب، والاستجابة المتباطئة للأسواق العقارية من جانب آخر، وانتهاء بالمحصلة النهائية على الأداء الاقتصادي بمختلف نشاطاته وأسواقه، على رأسه سوق العمل المتوقع ارتفاع معدلات البطالة فيها وتراجع معدلات التوظيف، والانكماش المتوقع في التدفقات الداخلة على الشركات والمنشآت، وهو بالفعل ما بدا ظاهرا وملموسا على كبرى الشركات في الولايات المتحدة ومنطقة اليورو، بارتفاع معدلات إنهاء عقود عشرات الآلاف من العاملين فيها خلال الأشهر القليلة الماضية، ويتوقع أن يزداد رتمه خلال العام أو العامين المقبلين.
تتلخص المراحل الراهنة لسياسات البنوك المركزية في ثلاث مراحل رئيسة: الأولى، مرحلة الاستمرار في رفع معدل الفائدة، وهي المرحلة الراهنة، والمتوقع أن تمتد حتى النصف الثاني من العام المقبل، التي توقع الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي أن يصل بمعدل الفائدة إلى نحو 5.1 في المائة قبل نهاية العام المقبل، واستمرار متابعة تطورات معدل التضخم المستهدف الوصول به إلى أدنى من 2.0 في المائة.
المرحلة الثانية، التوقف عن زيادة معدل الفائدة، مع المحافظة على مستوياته المرتفعة التي سيصل إليها، ومراقبة انعكاسات تلك المستويات على كل من التضخم والنمو الاقتصادي وأداء أسواق العمل (معدل البطالة)، والمتوقع أن يستغرق عام 2024 وقد يمتد إلى مطلع 2025.
المرحلة الثالثة، ترقبا لعودة معدل التضخم إلى مستوى 2.0 في المائة فما دون، ستبدأ البنوك المركزية بحذر شديد في إجراءات خفض معدلات الفائدة، وتحفيز الأسواق والاقتصادات على النمو مجددا، وأن تتم تلك الإجراءات بصورة متدرجة وحذرة جدا، تحوطا من عودة التضخم إلى الارتفاع مجددا، نظرا إلى ما يعنيه ذلك من زيادة في التحديات والمخاطر التي تبذل البنوك المركزية قصارى جهدها لتجنبها.
إنها المراحل التي تقترن بكثير من التحديات والآلام على الاقتصادات والأسواق، والمتوقع أن تتضمن عديدا من إفلاس البلدان متدنية الدخل، والشركات المفرطة في الاعتماد على الائتمان البنكي في مختلف أنحاء العالم، إضافة إلى تراجع معدلات النمو الاقتصادي في بلدان أخرى..
النتيجة المستهدفة من كل ذلك - حسب تصريحات البنوك المركزية - تتلخص في محاربة التضخم، والعمل المستمر على كبح جماحه إلى ما دون 2.0 في المائة، ولا مانع لدى تلك البنوك أن يكون ثمن تحقيق ذلك الهدف النهائي والوحيد، جميع ما تقدم من أثمان على سبيل المثال لا الحصر.
نقلا عن الاقتصادية
ولا زالت الجهود تبذل وعسى ان تكون الى خير .. شكرا أ عبدالحميد العمري
العفو أخي الموقر mosaed44 حفظكم الله