تحت ظلال الميزانية

08/12/2022 0
د. محمد آل عباس

هل إعداد الميزانية العامة للدولة والحسابات العامة يحتاج إلى معايير محاسبية، أم يحتاج فقط إلى تعليمات تصدرها وزارة المالية كل عام؟ ما الفرق الجوهري بين هذا وذاك؟ عادة ما كانت الممارسات في الولايات المتحدة تمثل معيارا مرجعيا في ذلك، وهناك نجد أن هذا الموضوع محل جدل منذ أوائل القرن الـ20 حتى عام 1984، حيث كان المجلس الوطني للمحاسبة الحكومية NCGA هم من يعدون التعليمات لإعداد الحسابات والميزانيات، لقد كانت مشكلة NCGA أنها تفتقر إلى القوة القانونية التي من خلالها تفرض على حكومات الولايات والحكومات المحلية بإعداد البيانات المالية السنوية ومراجعتها وفقا لمبادئ المحاسبة المقبولة عموما، فكل ولاية تحتفظ بحقها السيادي في تحديد آليات الإبلاغ عن عملياتها المالية، لكن في عام 1984، وقعت NCGA اتفاقية لإنشاء مجلس معايير المحاسبة المالية الحكومية GASB كذراع لمؤسسة المحاسبة المالية FAF وهي المؤسسة التي تشرف أيضا على مجلس معايير المحاسبة المالية FASB.

ومؤسسة المحاسبة المالية FAF تم تأسيسها في عام 1972 كمنظمة غير هادفة للربح، وأصبح أمناؤها مسؤولين عن اختيار أعضاء GASB وFASB وتوفير التمويل وممارسة الإشراف العام على هذه المجالس ومجالسها الاستشارية.

بعد أن تم تأسيس مجلس معايير المحاسبة الحكومية GASB عمل هذا المجلس على إنشاء وتحسين معايير المحاسبة والتقارير المالية الحكومية والمحلية على مستوى الولايات والحكومات المحلية، وذلك بهدف إنتاج معلومات مفيدة لمستخدمي التقارير المالية، وتوجيه وتثقيف الجمهور، بمن في ذلك المصدرون والمراجعون والمستخدمون لتلك التقارير المالية.

لكن لماذا ظهر هذا التحول؟ لماذا قبلت الولايات بمثل هذه المعايير؟ الأمر يعود إلى أولئك الذين يقرضون أو يمولون الديون الحكومية ومن قبل أولئك المشاركين في عمليات التمويل هذه، مثل وكالات تصنيف السندات وشركات التأمين.

فدخول الأسواق المالية والفوز بحصص كبيرة من سوق التمويل العالمي أو حتى المحلي يتطلبان شفافية ومعلومات ذات خصائص نوعية ووقتا مناسبا، لهذا توفر تقارير مبادئ المحاسبة هذا النوع من المعلومات.

في نهاية القرن الـ20 ظهر مفهوم إعادة ابتكار الحكومة Reinventing Government، وهو منهج جديد للإصلاح الحكومي، وذلك مع كتابات كل من ديفيد أوسبورن وتيد جيلبرت، خاصة كتاب إعادة اختراع الحكومة، كيف تعمل روح ريادة الأعمال على تغيير القطاع العام Osborne and Gaebler، 1992 وتتلخص الأفكار الأساسية لهذا المفهوم في مبادئ عشرة وهي الحكومة التحفيزية، القائمة على تحديد واضح للمهمة الموجهة نحو السوق والنتائج الممكنة التي يقودها العملاء من أجل تقديم خدمات تنافسية، كما أنها حكومة استباقية من خلال توسيع فرص الحوكمة لتحقيق الرقابة المانعة بدلا من العلاجية ودعم المشاركة والعمل الجماعي للوصول إلى حكومة لا مركزية، وقد تبنت الحكومة الأمريكية هذه التوجهات في ولاية الرئيس بيل كلينتون عندما أعلن حكومة أقل تكلفة وأكثر كفاءة، تعتمد على المبادرة والتمكين، وشكل لجنة برئاسة نائب الرئيس "آل جور" لمراجعة الأداء الوطني NPR، التي أصدرت تقريرها في العام نفسه بعنوان "الشراكة الوطنية لإعادة ابتكار الحكومة"، لقد أصبح الابتكار المصطلح الأكثر رواجا منذ ذلك الحين خاصة في القطاع العام، حتى إن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OCED، أسست لذلك مرصدا خاصا لتتبع الابتكار في القطاع العام، ومع ذلك واجهت هذه النظرية نقدا أساسيا بشأن خفض التكاليف الذي قد يكون على حساب الفاعلية وجودة الخدمات المقدمة، كما أن فكرة أن تدار الحكومة بالطريقة التي تدار بها الشركات الخاصة تتسبب في خلل الضوابط وتحديد المسؤولية.

عندما انطلقت رؤية المملكة 2030 في عام 2016 كانت الأسئلة كثيرة بشأن التحولات التي فرضتها الرؤية على هياكل العمل، خاصة الميزانية العامة، والرغبة في تحقيق التوازن المالي الذي كان مقررا له أن يحدث في عام 2023، هذه التحولات تتطلب إصلاحات هيكلية للسيطرة على العجز كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، لكن تلك الإصلاحات كانت تتطلب فكرا ابتكاريا وحكومة أكثر فاعلية حتى يمكن معالجة الخلل الكامن في المالية العامة للدولة وهو الاعتماد على النفط كمصدر وحيد للدخل، والحل كان في الوصول إلى نموذج من الحكومة الابتكارية التي تعمل على تعزيز كفاءة الإنفاق مع تنويع وتنمية الإيرادات، وتم ذلك فعلا مع نمو الإيرادات غير النفطية من 185 مليارا عام 2016 متجاوزة 360 مليارا عام 2020 بنسبة نمو تصل إلى 93 في المائة، وانخفض العجز من 15.8 في المائة في عام 2015 إلى 4.9 في المائة في 2021.

ومن المتوقع أن تحقق ميزانية العام الحالي 2022 فائضا قياسيا عند 102 مليار ريال، كما نما الناتج المحلي بشكل قياسي ومن المتوقع أن يبلغ نحو أربعة تريليونات ريال لأول مرة مع نسبة نمو بلغت 8 في المائة.

وتأتي ميزانية عام 2023 وهي تعدنا بمزيد من التقدم بميزانية تتجاوز التريليون إنفاقا وإيرادات مع الاستمرار في تحقيق الفوائض المالية الداعمة وهو يعني أن المملكة حققت مستهدفات برنامج التوازن المالي حتي قبل مواعيد استحقاقها الفعلية.

جدير بالذكر أن برنامج التوازن المالي قد تم تطويره ليصبح برنامجا للاستدامة المالية، وهذا التحول نحو الاستدامة المالية قد عكسته ميزانية عام 2023 مع الاتجاه نحو التعزيز والحفاظ على المكتسبات التي تحققت في الأعوام السابقة على جانب المالية العامة.

لقد استندت التجربة السعودية في إعادة ابتكار الحكومة، إلى محاور عدة من بينها تطوير إدارة القطاع الحكومي، مع تمكين المرأة، واستقطاب الكفاءات، وتنويع الدخل الحكومي، جنبا إلى جنب زيادة الشفافية وجودة المعلومات.

وفي اعتقادي، أن المرحلة المقبلة تتطلب تعزيز المعايير المحاسبية في القطاع العام لدعم نماذج أفضل لقياس أداء الأجهزة الحكومية، خاصة أن معظم هذه الأجهزة أصبحت ذاتية الإيرادات تعتمد على نماذج مختلفة من الرسوم والمقابلات المالية، هنا أعود إلى ما قدمته من حديث بشأن ضرورة وجود هيئة مستقلة للمعايير المحاسبية الحكومية التي يجب أن تستقل موضوعا ومضمونا عن وزارة المالية، وإن ظلت تحت إشرافها، فالاستدامة المالية تتطلب مزيدا من الدقة في قياس الأداء بما لا يمكن معه نماذج العمل الحالية، كما أن على الجهات الحكومية شبه المستقلة نشر قوائم مالية تمكن من المقارنة بينها.

 

 

نقلا عن الاقتصادية