يقول عالم الإجتماع الذي سبق عصره ابن خلدون «الناس في السكينة سواسية، فإذا جاءت المحن تباينوا». فما يعيشه عالم اليوم من تبعات جائحة كورونا والحرب الروسية على أوكرانيا وما خلفته هذه الأزمات من ارتفاع بالتضخم وتعطل بسلاسل الإمداد أدى بنهاية المطاف لأن تتخذ الاقتصادات الكبرى إجراءات خاصة بها لمواجهة التضخم تسبب برفع مستوى الحمائية باقتصاداتها ونسفت كل اتفاقيات التعاون والشراكات التجارية مع الحلفاء، فالاقتصاد العالمي يمر في ظروف استثنائية بالتحديات التي يواجهها والتي تتطلب سياسات تعاون والتزام بالاتفاقيات لتجاوزها، إلا أن ما يحدث عكس ذلك تمامًا، فهذه المحن اشعلت التباين فعلياً بين الشركاء التقليديين وعلى رأسهم الاتحاد الأوروبي وأميركا التي اتخذت توجهاً دعمت به قطاعها الخاص من خلال قانون الحد من التضخم، لكنه أدى لقتل التنافسية مع أوروبا، وهما أكبر شريكين تجاريين بالعالم إذ يبلغ حجم التبادل التجاري بينهما ما يقارب 1.3 تريليون دولار سنوياً.
فمع الإجراءات الأمريكية وكذلك انخفاض تكلفة الطاقة على المصنعين الأمريكيين ظهرت الفوارق الكبيرة بالتكلفة مع أوروبا التي تعاني صناعاتها من ارتفاع حاد في أسعار الطاقة، حيث تبيعهم أميركا الغاز بأربعة أضعاف السعر الذي يطبق داخل أراضيها، وهو بات يهدد مصانع أوروبا بالإفلاس، وقد عبَّر عن تلك المخاوف وزير المالية الفرنسي برونو لو مير الذي يرى «أنه حان الوقت لتفضيل الإنتاج الأوروبي لحماية مصالح أوروبا الاقتصادية كما تفعل الصين وأميركا, وذلك في سياق رده على كيفية مواجهة قرارات أميركية تهدف لحماية المصنعين من آثار التضخم»، كما أن ماكرون الرئيس الفرنسي الذي سيزور واشنطن هذا الأسبوع سيبحث مع الإدارة الأميريكية هذه المخاوف الأوروبية، حيث أكد وزير المالية بحكومته أنهم سيطلبون بعض الإعفاءات من الرسوم على البضائع الأوروبية لحماية صناعاتهم من انعدام التنافسية مع الصناعات الأمريكية، فما يتضح من سخونة هذه الأجواء بين أكبر حليفين في العالم أن توجهاً لاشتعال الحمائية سيطفو على السطح بشكل كبير، وقد ينتقل الأمر لحرب تحارية بين ضفتي الأطلسي مستقبلاً حتى لو كان ذلك احتمالاً ضعيفاً حالياً، فبعد أن أثرت الحرب التجارية بين الصين وأميركا سلبياً على الاقتصاد العالمي منذ حوالي أربعة أعوام وظهر مدى خطورتها وكشفت عن صعف كبير بدور منظمة التجارة العالمية في حل النزاعات التجارية بين الدول والكبار تحديداً، فإن أي خلاف تجاري بالحجم نفسه سيدخل العالم في دوامة من الركود التضخمي قد تطول لسنوات ولا يمكن التنبؤ بحجم عواقبها والضرر الذي ستحدثه، لأن ذلك يعني أن دولاً وتحالفات عديدة ستتخذ إجراءات لإبعاد الضرر عنها، فقد يتبعهم بذلك تكتل بريكس واقتصادات كبرى في آسيا وكذلك اقتصادات ناشئة في الشرق الأوسط وأميركا اللاتينية.
فالتطورات الجيوسياسية التي حدثت بالسنوات الأخيرة تؤهل كثيراً لمواقف تحمل أبعاداً خطيرة على الاقتصاد العالمي، فرغم الوقفة الأمريكية الأوروبية الموحدة ضد روسيا في حربها على أوكرانيا، لكن ذلك لا يغير من حقيقة أن أميركا وأوروبا يبتعدان عن بعضهما تدريجياً، فقد اهتزت الثقة بينهم في مناسبات عدة بداية من موقف غالبية دول أوروبا ضد غزو العراق قبل عقدين إلى عدم التوافق في معالجة ملفات سياسية عديدة في الدول التي تعيش فوضى منذ سنوات في الشرق الأوسط، ثم ما اتخذه الرئيس السابق ترمب من خطوات لحماية صناعات أمريكية أضرت بنظيراتها الأوروبية، وكذلك موقفه المغاجئ بالانسحاب من اتفاقية المناخ وتوجهه لتغيير في طبيعة حلف الناتو، إلا أن الرئيس الحالي بايدن الذي وعد بإصلاح تلك العلاقة مع أوروبا أخذ مواقف لا تبتعد عن ترمب كثيرًا خصوصًا في إلغاء صفقة الغواصات الفرنسية لأستراليا واستبدالها بغواصات أمريكية مما أدى لأن تسحب فرنسا سفيرها من واشنطن للتشاور كاعتراض دبلوماسي عالي المستوى على هذه الطعنة بالظهر من حليف إستراتيجي، وكذلك صدمة الأوروبيين من طريقة انسحاب أميركا من أفغانستان دون تنسيق مع دول الناتو التي كان لديها قوات على الأرض مما أدى لأسوء عملية انسحاب عشوائي تسببت بإحراج لدول الحلف دعت الأعضاء الأوروبيون لطرح فكرة إنشاء قوة خاصة بهم، فمن الواضح أن أميركا أخذت توجهات خاصة بها ولن تضع بالحسبان لحد ليس بالقليل مصالح حليفها الأوروبي ويذهب معها بالاتحاه ذاته بريطانيا وكندا وأستراليا وتحاول أن تبني تكتلاً جديدًا مع دول جنوب شرق آسيا والدول المطلة على المحيطين الهادي والهندي لمواجهة الصين منافسها الأبرز على زعامة العالم والتي تحمي صناعاتها من الأساس ولديها نهج خاص بها ولن تحيد عنه، وكذلك استطاعت أن تبني تحالفات تحارية واسعة في العالم عبر مبادرة الحزام والطريق.
من الواضح أن العالم يتجه لبناء جديد في التوجهات والمصالح ولن يبقى من مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية أي شيء يُذكر خلال العقدين القادمين، فالتكتلات الاقتصادية تزداد عدداً وقوةً، وهناك شبه اتفاق ضمني أن المؤسسات والمنظمات الدولية لم تعد قادرة على ضبط العلاقات بين الدول بالصبغة القائمة حالياً، ولذلك أصبح الجميع يتحه لأخذ قرارات تناسبه فقط بعيداً عن أي اتفاقيات دولية، وهو ما يمثل خطراً كبيراً في السنوات القادمة إذا لم يتوصلوا لتفاهمات تلغي معها كل المخاطر المحتملة، وكذلك منع الحمائية وعدم العودة للحروب التجارية.
نقلا عن الجزيرة