معظم العقوبات التي فرضت على روسيا من قبل الدول الغربية في أعقاب الأزمة الأوكرانية لم يكن لها تأثير كبير فيها حتى الآن. لإحداث التأثير المطلوب، على الدول الغربية التوقف تماما عن شراء الطاقة من أكبر مورد للنفط والغاز للقارة الأوروبية. أخيرا، أوروبا تجد نفسها في وضع يمكنها من البدء بجدية بتطبيق العقوبات، لكن تأمين إمدادات طاقة إضافية كافية لتحل محل الواردات الروسية لن يكون بالأمر السهل واليسير، وسيترتب عليه تكاليف باهظة على المستهلك الأوروبي، الذي بدأ يعاني بالفعل.
في الواقع، على الرغم مع اقتراب أوروبا من تخفيف اعتمادها على الطاقة الروسية، وشددت عقوباتها شيئا فشيئا، إلا أن الأسواق الأوروبية لا تزال تترنح. في أوائل أيلول (سبتمبر)، عندما وافقت دول مجموعة السبع على فرض حد أقصى لسعر النفط الروسي، ردت روسيا بإيقاف تدفق الغاز تماما عبر خط أنابيب نورد ستريم1 في غضون ساعات، مشيرة للحاجة إلى إجراء صيانة على التوربينات الذي عد من الجانب الأوروبي مجرد حجة لإيقاف تدفق الغاز. نورد ستريم1 هو أكبر خط أنابيب منفرد للغاز من روسيا إلى أوروبا ولديه القدرة على ضخ 55 مليار متر مكعب من الغاز سنويا. على الرغم من أن هذه الخسارة في إمدادات الطاقة الحيوية بين عشية وضحاها فاقمت أزمة الطاقة الحادة بالفعل في أوروبا، إلا أنها حفزت أيضا تطوير مصادر طاقة جديدة وشركاء تجاريين جدد. لم تكن أوروبا قريبة من الاستعداد لهذه الخطوة. على أقل تقدير، كانت التوقعات قاتمة، حيث سارعت القارة إلى تأمين إمدادات بديلة قبل فصل الشتاء الذي بالتأكيد سيكون شتاء طويلا ومؤلما. حتى الآن، كان الارتفاع المفاجئ في أسعار الطاقة أقل خطورة مما كان متوقعا. لكن، من المؤكد أن الأسعار لا تزال مرتفعة بشكل مؤلم لمعظم المستهلكين.
في الواقع، على الرغم من أن أزمة الطاقة في أوروبا لا تزال خطيرة، إلا أنها لم تكن مدمرة كما توقع عديد من الخبراء. حيث انخفض الطلب على الطاقة استجابة لارتفاع الأسعار، وارتفعت الطاقات البديلة. في إطار الجهود المبذولة لاستبدال واردات الطاقة الروسية، سجلت 18 دولة من أصل 27 دولة في الاتحاد الأوروبي أرقاما قياسية جديدة لتوليد الطاقة الشمسية هذا العام. في أعقاب هذه التطورات، أصبحت أوروبا مستعدة إلى حد ما للتغلب على التحدي. لكن، على الرغم من أن زيادة الطاقة الشمسية هي أخبار تبعث على الأمل بالنسبة إلى أوروبا والمناخ، إلا أن هذه الطاقة الإنتاجية الإضافية لن تغطي سوى جزء صغير من الطاقة اللازمة لملء الفراغ الهائل الذي خلفه انقطاع إمدادات الطاقة الروسية في أسواق الطاقة الغربية. في حين أن النتيجة ستكون تراجعا اقتصاديا لكل من الاتحاد الأوروبي وروسيا، سيكون هناك فائز رئيسي، الشرق الأوسط. وبالفعل، تسارع مصافي النفط في جميع أنحاء العالم لتأمين الصفقات وضمان إمدادات النفط الخام من الشرق الأوسط لما تبقى من هذا العام والعام المقبل.
ومع ذلك، قد يتم رفض طلبات بعض المصافي التي تتدافع للحصول على عقود محددة الأجل، حيث وافقت "أوبك +" بالفعل على خفض كبير للإنتاج، الأمر الذي أثار استياء الغرب. بدءا من هذا الشهر، ستخفض المجموعة حصص الإنتاج بمقدار مليوني برميل يوميا. على الرغم من أن الولايات المتحدة أدانت علنا هذه الخطوة، قائلة، إن المجموعة تدعم روسيا، كان لدول "أوبك" مصلحة اقتصادية ذاتية مشروعة في دعم استقرار الأسواق. خوفا من أن يؤدي الركود الاقتصادي العالمي المقبل واستمرار الإغلاق في الصين إلى خفض الطلب على النفط، تحاول الدول الأعضاء في "أوبك" حماية نفسها من الخسائر المحتملة للعام المقبل.
بالفعل، خفضت "أوبك" تقديراتها لنمو الطلب العالمي على النفط لهذا العام والعام المقبل في خامس خفض لتوقعات الاستهلاك منذ نيسان (أبريل). قالت المنظمة في تقريرها الشهري الأخير عن أسواق النفط إنها عدلت توقعاتها لنمو الطلب على النفط لـ 2022 و2023 بمقدار 100 ألف برميل يوميا عن تقديرات الشهر الماضي، بسبب سياسة الصين حيال الجائحة التي لا تزال صارمة والتحديات الاقتصادية في أوروبا. تتوقع "أوبك" الآن نمو الطلب العالمي على النفط بنحو 2.5 و2.2 مليون برميل يوميا في 2022 و2023 على التوالي. في هذا الجانب، لاحظت "أوبك" أنه "على الرغم من أن المخاطر تميل إلى الجانب السلبي، هناك بعض الاحتمالات الصعودية لتوقعات النمو الاقتصادي العالمي. قد يأتي هذا النمو من مجموعة متنوعة من المصادر. في الغالب، يمكن أن يتأثر التضخم بشكل إيجابي بأي حل للوضع الجيوسياسي في شرق أوروبا، ما يسمح بسياسات نقدية أقل تشددا".
في أقل من شهر، سيتم منع جميع الشركات في الاتحاد الأوروبي تقريبا من شراء النفط المنقول بحرا من روسيا. سيبدأ التأثير الكامل للقيود في الظهور بمجرد دخول هذه الإجراءات حيز التنفيذ، لكن هناك تكهنات على نطاق واسع بأن صادرات البترول الروسية - من بين أكبر الصادرات البترولية في العالم - ستنخفض.
نتيجة لذلك، تنظر الدول المستوردة للنفط إلى صورة ضبابية ومعقدة، فمن ناحية، قد ينخفض نمو الطلب العالمي على النفط بشكل كبير في العام المقبل، من ناحية أخرى، إذا بدأت أوروبا في اقتناص نفط الشرق الأوسط، فقد يؤدي ذلك إلى احتدام المنافسة على الشحنات الفورية من الولايات المتحدة وبحر الشمال حتى الخليج العربي. في الواقع، يسارع عديد من مصافي النفط في العالم لمحاولة ضمان إمدادات خام الشرق الأوسط للعام المقبل، خوفا مما سيحدث لبرنامج التصدير الروسي العملاق. قد يؤدي اهتمام أوروبا المفاجئ بالنفط غير الروسي إلى صعوبات للمستوردين الآسيويين.
كل هذا يعني أن التوقعات لأسواق النفط بصورة خاصة والطاقة بصورة عامة في 2023 ستكون على أقل تقدير معقدة وضبابية. في الواقع، حالة الاقتصاد العالمي الحالية والتداعيات الجيوسياسية ترسل رسائل متناقضة ومؤشرات مربكة حيرت حتى كبار المختصين والمحللين حول الطريقة التي ستكون عليها أسواق الطاقة في المستقيل القريب. مع كل هذه الشكوك التي تلوح في الأفق، سيكون من الصعب اتخاذ قرارات كبيرة تخص الطاقة.
نقلا عن الاقتصادية