التوجهات الحاكمة لسياسة أميركا الخارجية

19/10/2022 0
محمد العنقري

تسارع الأحداث العالمية وما تمر به البشرية أصبح أمراً مربكاً لمن يحاولون استشراف مآلات نتائج هذه الأحداث من أزمات مالية واقتصادية وصحية وسياسية، فعالم اليوم أصبح صاخباً والاستقرار على كافة الأصعدة بات وكأنه سراب فهذه النظرة الضبابية تكاد تسيطر على كافة القراءات والتحليلات سواء التي تضعها الدول أو وسائل الإعلام وقد تنحصر دائرة البحث عن سبب عدم الشعور بالاستقرار العالمي إلى الصراع القائم بين القوى الكبرى التي تبحث عن مكانة تؤهلها لتكون قطباً دولياً وتلغي انفراد أميركا بذلك بعد تفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991 الذي كان القطب المنافس لها بينما تقوم واشنطن بكل ما يمكن فعله لمنع وجود هذه الأقطاب الجديدة بحسب ما تراه دوائر مراكز الفكر الدولية ومع هذا الصخب والمواجهات الأمريكية لمن يبحثون عن موقع قطب جديد مثل الصين وروسيا وحتى الاتحاد الأوروبي يُطرح سؤال مهم جداً: ماذا تريد أميركا من العالم؟

بدايةً قد يختلف الكثيرون في فهم أو قراءة ما الذي يحكم توجهات السياسة الخارجية الأمريكية ليس بالعقود الماضية، بل حتى القرون الثلاثة الأخيرة ولعل أفضل من شرح هذه التوجهات وما هي المدارس التي سار على خطاها أغلب رؤساء أميركا هو عالم السياسة والكاتب الشهير «والتر راسل ميد» مؤلف كتاب (Special Providence) الذي لخص فيه هذه المدارس والتوجهات للسياسة الأمريكية ومن هم منظروها وواضعو أسسها، حيث أعتبر أن أربعة مدارس تحكم توجهات أميركا خارجياً وهي مدرسة «الكسندر هاميلتون» أحد الآباء المؤسسين الذي يعتبر مؤسس النظام المالي لأميركا كونه شغل منصب أول وزير خزانة بتاريخها وترتكز فكرته على أن التجارة الخارجية هي الرابط لأميركا مع العالم وأساس سياستها الخارجية من خلال حماية الشركات ودعمها وأن تتشكّل قوة عسكرية أمريكية لحماية مصالحها الخارجية كما كانت بريطانيا تفعل في ذروة مجدها وذلك من خلال قيام الحكومة الفيدرالية بذلك لتبقى قوتها بالتجارة الدولية مهيمنة ولتنعكس ربحية الشركات الأمريكية من خلال موقعها المتسيد بالتجارة دولياً على المجتمع الأمريكي أي أن التحالفات ذات طابع تجاري لأنه يرى أن الشركات الأمريكية هي العمود الفقري للاقتصاد ويجب أن تمنع أميركا قيام أي منافس لها وأن تواجه ذلك بالطرق السلمية والعسكرية رغم أنه يعتقد بأن زيادة المصالح التجارية بالعالم تؤدي للسلام بالضرورة وليس للحروب، أما المدرسة الثانية بحسب الكتاب فهي عائدة لفكر الرئيس الثالث «جيفرسون» الذي يرى بأن أميركا يجب أن تحترم خصوصية الدول وشعوبها وأن لا تعمل لمصلحة الشركات وتبتعد عن كل ما قد ينعكس بالخطر على الأمن القومي الأمريكي من خلال التدخل الخارجي وحماية مصالح الشركات الأمريكية وكذلك التغلغل بالملفات السياسية الدولية أي انه يهتم بالديمقراطية داخل أميركا إما المدرسة الثالثة فهي للرئيس الأمريكي الثامن والعشرين «ويلسون» الذي يرى أن محرك السياسة الخارجية لأميركا هو تصدير القيم الأمريكية المتمثلة بنشر الديمقراطية وحقوق الإنسان والرأسمالية وحرية الأسواق فهو يعتقد بأن نشر هذه القيم تحمي أميركا عندما تتحول أغلب دول العالم لها وحتى تتحقق هذه التوجهات فهو يؤكد على ضرورة قيام تحالفات مع دول تشابه أميركا بقيمها مثل حلفائها من دول أوروبا، بل إن متبعي هذه المدرسة يرون بأن قيام مؤسسات دولية كالأمم المتحدة ومجلس الأمن والمؤسسات الالية والاقتصادية الدولية كصندوق النقد والبنك الدولي وغيرها تعد أذرع رئيسية تدعمهم لنشر القيم الأمريكية أي أن توجهات هذه المدرسة تريد أن تجعل العالم أمريكيا خالصاً أما المدرسة الرابعة فهي للرئيس الأمريكي السابع اندرو جاكسون الذي يرى الانعزالية هي السياسة الأفضل لأميركا وأنه لا يؤمن بإقامة تحالفات دولية ولا يعترف بها، بل حدد العلاقات الخارجية على مبدأ الصفقات التجارية بشرط أن تنصب نتائجها لصالح المواطن الأمريكي فهو لا يضع الشركات في أولوية المكاسب المتحققة من تلك الصفقات أي لا معنى لديه لأي شركة تحقق ربح من الصفقات الخارجية إذا لم ينعكس ذلك على المواطن الأمريكي ويعد الرئيس ترمب هو من أقرب من حكم أميركا لمدرسة جاكسون التي انحسرت بعد موته بشكل كبير.

لكن عند تقييم مراحل الحكومات الأمريكية فإن أغلب من حكم أميركا خصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية كانوا يميلون لمدرستي هاميلتون وويلسون أي يهتمون بالعلاقات والتحالفات التجارية وكذلك نشر القيم الأمريكية ولعل أكثر من طبقوا قواعد المدرستين هم الرئيسين أوباما والحالي بايدن، لكن عملياً رغم كل ما حققته أميركا من تفوق دولي وما تمتلكه من قوة وهيمنة دولية إلا أنها تمر بمرحلة إثبات بقاءها أكبر قوة عالمية اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً من خلال مواجهاتها مع منافسيها الذين يعملون على إلغاء هذه الهيمنة والانتقال لعالم متعدد الأقطاب تحترم فيه مصالح كل الشعوب وأن لا تحتكر مجموعة محدودة من الدول بقيادة أميركا جل الموارد عالمياً وأن يكون لها نصيب الأسد في ثروات العالم والتحكم بمصائرهم، فالمتتبع لما تقوم به واشنطن يستغرب إصرارها على دعم الفوضى بالعالم فمن إطلاقها مشروع الفوضى الخلاَّقة الذي دمر دولاً بالشرق الأوسط وتسبب بتهجير شعوب داخلياً وخارجياً وتحديداً ببعض الدول العربية منذ غزو العراق إضافة لما يجري حالياً من ابتعاد عن الوصول لأي حل سياسي للحرب الروسية الأوكرانية في الوقت الذي تدعم زيادة العقوبات على روسيا مما أدى لتداعيات اقتصادية متمثلة برفع معدلات التضخم دولياً إضافة لاستفزازها للصين في ملف تايوان من خلال الزيارة التي قامت بها رئيسة مجلس النواب الأمريكية رغم اعتراض بكين على ذلك، إذ تعتبره مساساً بسيادتها وآخر هذه الاستفزازات تصريحات صدرت من الرئيس بايدن حول اعتباره أن البرنامج النووي لباكستان يمثِّل خطورة عالية وكأنه محاولة للضغط عليها نتيجة علاقتها مع الصين وكذلك إرضاء للهند لإبعادها عن روسيا بخلاف سياسة واشنطن اتجاه إيران فهي سمحت لها بالتمدد إقليمياً بالوقت الذي تضع عقوبات عليها منذ سنوات وتتهمها بأنها دولة راعية للإرهاب مع ذلك تقدم برنامجها النووي تحت أنظار واشنطن دون أن توقفه بأي مرحلة مبكرة، بل وكل ما وصلت طهران لاختناق مالي أفرجت أميركا عن بعض الأموال المجمدة تحت أي صيغة كانت لكي يستمر نظام إيران بممارساته الخطرة بالعالم العربي ولكن ما بدأ يظهر بالسنوات القليلة الماضية من توجهات لسياسة أميركا الخارجية هو النظرة الضيقة التي تخدم مصالح الحزب الحاكم وخير شاهد اعتراض إدارة الرئيس بايدن على قرار أوبك بلس خفض إنتاج النفط والذي اتخذ لأسباب اقتصادية بينما حاولت أميركا تسييس القراواعتباره انحيازاً لروسيا في الوقت الذي اتضح أن واشنطن طلبت تأجيل القرار لشهر مما جعل بعض المحللين الأمريكيين يعتبرون أن هذا الطلب مرتبط بالانتخابات النصفية للكونجرس في محاولة من الديمقراطيين لإبقاء الأغلبية لصالحهم.

أصبحت سياسة أميركا الخارجية تقوم على أنها تريد من العالم أن يخدم مصالحها بالدرجة الأولى لتبقى هي القوة الأولى فيه ثم بعد ذلك ينظر في مصالح بقية الشعوب دون تقدير لتلك المصالح والعلاقات، فقد نال أقرب حلفائها في أوروبا نصيباً من تغيرات سياسة واشنطن من إلغاء صفقة الغواصات الفرنسية لأستراليا إلى ما نتج عن فرض العقوبات على روسيا من تحول نحو استيراد الغاز الأمريكي بأسعار مرتفعة جداً إلى محاولة تكييفها سعر النفط على ما يخدمها دون النظر لاقتصاد الدول المنتجة للنفط أو لما قد يترتب عليه وضع الاقتصاد العالمي إذا تحولت أسعار النفط لتقلبات عالية جداً فالعالم اليوم شاهد على أكثر مراحل هذا القرن تعقيداً والذي تأخذ فيه واشنطن وضعاً مربكاً للعالم من خلال ما تقوم به من تحركات لا تخدم الاستقرار العالمي لا اقتصادياً ولا سياسياً مستخدمةً كل أدواتها ومثقلة بجبال من الديون وفقدان لأوراق خارجية لصالح منافسيها كوزنها بالتجارة الدولية أو التراجع بأهمية الدولار وإن كان بنسب بسيطة لكنه مؤشر ليس في صالح واشنطن إضافة لقيام تكتلات عالمية تمثِّل نداً قوياً بالمستقبل لمكانتها اقتصادياً.

 

 

نقلا عن الجزيرة