مكافحة التضخم أم التخلص من أصول الفيدرالي؟

16/10/2022 5
د. فهد الحويماني

صحيح أن هناك تضخما حادا في الولايات المتحدة، ودول أخرى كثيرة، وهو التضخم الذي نسبة ارتفاعه الأعلى منذ نحو أربعة عقود، لكن هل ردة فعل جاي باول، رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي مبررة؟ هل التضخم مخيف إلى الدرجة التي جعلت الفيدرالي يقوم برفع معدلات الفائدة بـ75 نقطة أساس لثلاث مرات على التوالي، ويصر على المضي في رفع معدلات الفائدة خلال الأشهر القليلة المقبلة، أم أن هناك أسبابا أخرى لهذه التحركات؟

يبدو أن هناك أمرا آخر متعلقا بالأصول التي تعج بها خزائن الفيدرالي، التي من الواجب على باول التخلص منها، وهذا ربما يفسر إصرار الفيدرالي على رفع أسعار الفائدة بحجة مكافحة التضخم، بينما في الحقيقة السبب الأهم هو التخلص من الأصول. لماذا على الفيدرالي التخلص من الأصول؟ وما علاقة ذلك بأسعار الفائدة والتضخم؟

أولا هناك حقيقة مهمة يجب علينا إدراكها وهي في حال أن الأسعار بقيت على المستوى المرتفع الذي هي عليه حاليا إلى العام المقبل، وفي مثل هذا الشهر، فكم تتوقع عزيزي القارئ أن تكون نسبة التضخم في ذاك الوقت؟ الحقيقة هي أن نسبة التضخم ستكون 0 في المائة، وسيحقق باول مراده في مكافحة التضخم، بل إن النسبة ستكون أقل من النسبة المستهدفة من قبل الفيدرالي وهي 2 في المائة! طبيعة حسابات نسب التضخم هي أنها عبارة عن مقارنة تكلفة سلة السلع والخدمات في هذا الشهر بالشهر المماثل من العام السابق، وكذلك مقارنة النسبة هذا الشهر بالشهر السابق. باختصار، نسبة التضخم ستنخفض بقوة العام المقبل، إلا إن حدثت تطورات استثنائية واستمرت الأسعار في الارتفاع، وهذا أمر مستبعد.

لذا يبدو من وجهة نظري أن التضخم ليس السبب الحقيقي في رفع معدلات الفائدة بهذه الحدة، بل إن التخلص من الأصول هو السبب الأقوى. علينا أن نتذكر أن أصول مجلس الاحتياطي الفيدرالي كانت أقل من تريليون دولار إلى أن اندلعت الأزمة المالية في 2008، حين قرر الفيدرالي القيام بعمليات تيسير كمي ضخمة جدا، رفعت من أصول الفيدرالي إلى أكثر من 2.2 تريليون دولار خلال أشهر قليلة، واستمرت في الارتفاع إلى أن وصلت نحو 4.5 تريليون دولار في 2014، وبعد ذلك حصل هناك بيع قليل منها، لكن جاءت أزمة كورونا فقرر الفيدرالي شراء مزيد من الأصول المتنوعة خلال أشهر قليلة، فارتفعت الأصول إلى أكثر من سبعة تريليونات دولار، واستمرت في الارتفاع إلى أن بلغت نحو تسعة تريليونات دولار في أيار (مايو) 2022.

طبيعة عمل مجلس الاحتياطي الفيدرالي تتطلب ضخ السيولة النقدية في الاقتصاد عند الحاجة، ويتم ذلك بشراء السندات التي تصدرها وزارة الخزانة الأمريكية لسد عجز الميزانية الحكومية، وكذلك شراء سندات الرهن العقاري التي يقوم بها الفيدرالي خدمة للبنوك التي تقدم القروض العقارية. النقطة المهمة هنا أن الفيدرالي يشتري تلك السندات دون أن يكون لديه أي أموال لدفع قيمتها، والسبب هو أنه بنك مركزي لديه الصلاحية الكاملة لطباعة النقود، إن صح التعبير، متى شاء.

وفي الوقت نفسه، يتعين على البنك الفيدرالي القيام بالعملية المعاكسة، أي بيع تلك الأصول والتخلص منها، وإلا ستضعف مصداقيته كبنك مركزي وتختل قدرته على ممارسة سياسته النقدية. أحد أهم أسباب بقاء الدولار عملة عالمية قوية، ولا سيما في الأشهر القليلة الماضية، هو أن هناك إيمانا قويا بقدرة الفيدرالي على التخلص من الأصول التي لديه، وبالتالي إبطال المقولة الشائعة، إن أمريكا أغرقت العالم بدولارات بلا رصيد.

وعندما يقوم الفيدرالي ببيع الأصول، فإن محصلات البيع من الأموال يتم حذفها من الوجود، أي أن هدف الفيدرالي في الأعوام القليلة المقبلة هو إعادة أصول الفيدرالي إلى نحو تريليون دولار فقط، بدلا من تسعة تريليونات دولار حاليا. وبالتالي سيتم "إتلاف" نحو ثمانية تريليونات دولار، وهي عبارة عن عملية سحب سيولة مهولة من الأسواق.

مشكلة بيع الأصول، وهي في الغالب سندات حكومية من فئة عشرة أعوام وأكثر، إن عمليات البيع هذه بالضرورة تؤدي إلى ارتفاع عوائد السندات، لأن هناك علاقة عكسية بين سعر السند والعائد عليه. وطيلة الأعوام الماضية لم يكن هناك مجال ولا فرصة لرفع أسعار الفائدة، لكون السياسة النقدية كانت تحاول إبقاء الفائدة قريبة من الصفر لأجل دعم الاقتصاد وتحقيق الأهداف المنوطة بالفيدرالي. أما الآن بحكم وجود تضخم حاد في الأسعار، فإن الفيدرالي يهدف إلى ضرب عصفورين بحجر واحد، أي رفع أسعار الفائدة لمواجهة التضخم، وفي الوقت نفسه تبرير عملية بيع الأصول التي لديه.

من المهم الإشارة إلى أن رفع معدل التمويل الفيدرالي يستهدف معدلات الفائدة على المدى القصير، أما عمليات بيع الأصول فهي تستهدف الفائدة على المدى الطويل.

المشكلة الأخرى لعملية بيع الأصول هي أنها تتطلب مشترين، فأين هم المشترون؟ لاحظ أن عملية شراء السندات، أي ضخ السيولة في الأسواق، سهلة للغاية بسبب قدرة الفيدرالي على دفع قيمة الأصول من لا شيء، أما عملية بيع الأصول فهي عملية تتطلب وجود مشترين، وأخطر من ذلك أنها عبارة عن عملية سحب كبيرة للسيولة النقدية من الأسواق.

إذا كان الفيدرالي سيقوم بإتلاف نحو ثمانية تريليونات من الدولارات فهذا يعني أن جزءا من هذه الأموال ستخرج من وسائل مالية كالأسهم والعقارات والسلع وغيرها وتتجه إلى السندات، وهذا يفسر سبب تخوف أسواق الأسهم من عمليات البيع التي يقوم بها الفيدرالي. للمعلومية، الفيدرالي لديه جدول معلن بحجم وتوقيت عمليات البيع التي سيقوم بها، وهو قرر في الأشهر القليلة الماضية أنه سيضاعف من عمليات البيع لتصبح 94 مليار دولار شهريا.

أخيرا، مشكلة بيع السندات من قبل الفيدرالي هي أن العملية مكلفة لوزارة الخزانة، والسبب هو أن الفوائد التي تدفعها الحكومة الأمريكية مقابل السندات التي أصدرتها ستكون أموالا حقيقية حين تنتقل ملكية السندات إلى المشترين الجدد. أي لاحظ أن الأصول التي قيمتها نحو تسعة تريليونات دولار ويمتلكها حاليا الفيدرالي، تتجه فوائدها الدورية من وزارة الخزانة إلى الفيدرالي الذي عليه، بحسب أنظمته، إعادتها إلى وزارة الخزانة. لذا فإن جزءا كبيرا من الفوائد التي تدفعها الحكومة الأمريكية تعود إليها، لكن ذلك سيتغير عندما يقوم الفيدرالي ببيع تلك الأصول. ومرة أخرى حينما يقوم ببيعها فإنه يقوم بإتلاف متحصلاتها للحفاظ على متانة العملة الأمريكية.

عملية سحب السيولة من الأسواق التي من الواضح أنها ستتم خلال الأعوام القليلة المقبلة ستكون لها تأثيرات سلبية كبيرة في كثير من الأسواق المالية.

 

 

نقلا عن الاقتصادية