اليابان.. واقتصاد ما بعد الفقاعة

13/10/2022 1
د. خالد رمضان عبد اللطيف

يكافح المسؤولون اليابانيون في الوقت الراهن من أجل تقوية الين في مواجهة الإمبراطور الأمريكي "الدولار" بعد أن تراجعت العملة إلى أدنى مستوى في ربع قرن، وبالرغم من أن البنك المركزي الياباني شدد على أنه سيتم التسامح مع المزيد من الانخفاض في قيمة الين، إلا أن هذا الأمر سيؤثر سلبًا على الاقتصاد والظروف المالية، لكن تدخل البنك المركزي على أية حال لم يكن ناجحاً بالدرجة الكافية حتى الآن، مما يشير إلى أن أزمة ما بعد الفقاعة قد وصلت ذروتها.

تعود جذور معضلة السياسة الحالية إلى انفجار اقتصاد الفقاعة اليابانية في ديسمبر 1989، وهو حدث نتج عن التخفيضات الحادة في أسعار الفائدة من جانب بنك اليابان استجابةً لارتفاع قيمة الين بعد اتفاقية بلازا، وهذه الاتفاقية عبارة عن معاهدة بين حكومة اليابان، وبريطانيا، وألمانيا، وأميركا، وفرنسا، لتقليل قيمة الدولار أمام الين والمارك من خلال التدخل في أسواق صرف العملات، وقد وقعت حكومات هذه الدول على الاتفاقية عام 1985 في فندق بلازا بمدينة نيويورك.

منذ أوائل التسعينيات، كافح صانعو السياسة اليابانيون لعلاج الركود المستمر بعد الفقاعة من خلال سلسلة طويلة من برامج الإنفاق العام المدعومة بشراء السندات الحكومية من قبل البنك المركزي، وقد تسارعت هذه السياسة في عام 2013 في عهد رئيس الوزراء الراحل شينزو آبي مع تدابير "أبينوميكس"، وهى مجموعة من الآليات التي تستهدف حل مشاكل الاقتصاد الكلي الياباني، لكنها أدت بالنهاية إلى زيادة الدين الحكومي العام إلى أكثر من 260% من الناتج المحلي الإجمالي وتضخيم الميزانية العمومية لبنك اليابان.

كانت هذه السياسة النقدية التوسعية للغاية مصحوبة بتضخم منخفض لأن عمليات شراء السندات الحكومية الواسعة لبنك اليابان سمحت للحكومة بدعم الشركات والسلع والخدمات، وأدى الانخفاض المستمر في تكاليف التمويل للمؤسسات، فضلاً عن إعانات الغذاء والنقل والتعليم، إلى منع الأسعار من الارتفاع، وشجع التوفير السخي للأموال على ظهور شركات الزومبي بقوة، فقد زادت من رأس مالها بدلاً من الاستثمار في كفاءة التشغيل.

ساعد التضخم المنخفض، ومكاسب الإنتاجية على تضييق الزيادات الاسمية للأجور نظرًا لأن بنك اليابان أبقى أسعار الفائدة طويلة الأجل أقل بكثير من الولايات المتحدة، فقد مولت تدفقات رأس المال الصافية المستمرة فوائض الحساب الجاري، وشكل تراكم ناتج صافي الأصول الأجنبية المقومة بالدولار (3.6 تريليون دولار) اعترافاً ضمنياً بارتفاع قيمة الين، حيث يمكن إعادة تحويل الأصول الأجنبية إلى الين في أي وقت، وبينما اتبعت الولايات المتحدة توسعًا نقديًا مشابهًا، لم يتعرض الين لضغط مستمر.

الآن، تغير الوضع لأن الاحتياطي الفيدرالي يقوم برفع أسعار الفائدة بشكل حاسم مع وصول التضخم إلى أعلى معدلاته خلال أربعة عقود، وأدى الاستياء المتزايد بشأن عدم استقرار الدولار باعتباره العملة الدولية الرائدة إلى محاولات نزع العملة الخضراء عن الأصول الأجنبية في دول كبيرة مثل الصين وروسيا، بينما يميل المزيد من الناس في بعض البلدان إلى الاحتفاظ بالعملات المشفرة بدلاً من الدولار.

كما حدث في نهاية فترة التضخم المرتفع خلال السبعينيات، فإن الامتياز الباهظ للولايات المتحدة المتمثل في زيادة الديون الخارجية بعملتها الخاصة في خطر، وهذا يبشر بنهاية نموذج اليابان بعد الفقاعة، والذي وصل إلى ذروته عبر تدابير أبينوميكس وخطط للاستمرار في ظل الرأسمالية الجديدة، وإذا أبقى بنك اليابان أسعار الفائدة منخفضة بينما يواصل بنك الاحتياطي الفيدرالي رفع الفائدة ، فسوف يستمر الين في الانخفاض، وسترتفع أسعار السلع المستوردة، لا سيما المواد الخام والوقود والغذاء مما سيزيد من تآكل القوة الشرائية لليابانيين. إذا طالبت النقابات العمالية بأجور أعلى، فيمكن أن يتبع التقشف السابق للأجور دوامة في الأسعار والأجور، وإذا استمرت الحكومة في إخفاء التضخم من خلال الإعانات، فسوف تتسارع الحلقة المفرغة لارتفاع الدين الحكومي والتوسع النقدي، مما يزيد من تآكل مصداقية الين، وقد أصبحت هذه المخاوف أكثر صراحة الآن بعد أن اتبع شركاء تجاريون مهمون مثل كوريا الجنوبية مسار أسعار الفائدة في واشنطن.

وفي حال رفع بنك اليابان أسعار الفائدة لاحتواء انخفاض قيمة الين، فسوف يرتفع عبء الديون الحكومية، ولهذا، يبقى البنك على مدفوعات أسعار الفائدة الحكومية منخفضة عن طريق خفض معدل الفائدة على السندات الحكومية بالقرب من الصفر، وبينما زادت الفائدة على السندات الأمريكية لمدة 10 سنوات من 1.6 % إلى 3.8 % في عام 2022، أبقى بنك اليابان الفائدة على السندات الحكومية لمدة 10 سنوات عند 0.24%، لهذا، فإن أزمة الديون السيادية ستلوح في الأفق إذا ارتفعت أسعار الفائدة.

وما لم يقم الاحتياطي الفيدرالي بعكس تشديده النقدي، فإن اليابان ستظل محاصرة، وفي هذا الصدد يقترح البعض تنفيذ زيادات تدريجية في أسعار الفائدة وإجراء تخفيضات كبيرة في الإنفاق الحكومي، ومن شأن ذلك أن يعيد إحياء مشروعات الزومبي اليابانية ويحفز النمو، وسيتم تسهيل الإصلاحات من خلال الشركات التي تجلس على أكوام كبيرة من الأسهم، حيث يمكنها المساعدة في إعادة الأصول الأجنبية للبلاد وتعزيز الاستثمار المحلي، وعلى الرغم من هذه النظرة الإيجابية، إلا أن الإصلاحات الضرورية تبدو وكأنها انتحار سياسي، فقد تضطر اليابان إلى المرور بفترة أطول من التضخم لتخفيف العبء الهائل للديون قبل أن تتمكن من تنفيذ الإصلاحات اللازمة.

 

خاص_الفابيتا