انطلقت حكومة المملكة العربية السعودية بخطىً ثابتة، خلال العِقد الأخير على الأقل، نحو تحقيق مساعيها الرامية إلى دفع عجلة التنمية الاقتصادية في البلاد. وعلى الرغم من مكانة المملكة كدولة غنية ونامية، إلا أن طبيعة التنمية الاقتصادية التي شهدتها قبل هذه الفترة تأثرت ببعض التحديات التي تمثلت في المشاركة غير المتوازنة والاعتماد المفرط على قطاع الطاقة. وفي إطار حرصها على الاستفادة من تجارب الدول الأخرى، اعتمدت المملكة نهج الشراكة بين القطاعين العام والخاص بوصفه مسارًا فعالاً للتغلب على العديد من المعوقات التي حالت دون تحقيق مستهدفات استراتيجيات نموها الاقتصادي. وقد بلغت قيمة مشاريع الشراكة المخططة بين القطاعين العام والخاص في المملكة نحو 1.05 تريليون دولار أمريكي، ويجري العمل على تنفيذ معظم هذه المشاريع في نفس الوقت. ووفقًا لتقديرات البنك الدولي، بلغت نسبة مساهمة القطاعات الصناعية (بما يشمل قطاع التشييد والبناء) في الناتج المحلي الإجمالي نحو 45.5% في عام 2021 ، واستحوذت مشاريع الشراكة بين القطاعين العام والخاص على نسبة غير محددة من إجمالي هذه المساهمة. ومن المتوقع أن تسهم بعض هذه الشراكات في دعم مساعي المملكة لتحقيق الزيادة المستهدفة لنسبة مساهمة القطاع الخاص في الناتج المحلي الإجمالي من 50% (حسب بيانات الهيئة العامة للإحصاء للربع الثالث من عام 2021 -) إلى 65% بحلول عام 2025.
في هذا السياق، بلغ عدد مشاريع الشراكة بين القطاعين العام والخاص في المملكة نحو 201 مشروع حتى أغسطس 2022، وذلك وفقًا لإحصائيات منصة متابعة مشاريع البنية التحتية العالمية الكبرى (infra-world-PPP) التابعة لشركة آي إم سي وورلد وايد الاستشارية . وتتباين مستويات التنفيذ في كلٍ من هذه المشاريع على مستوى القطاعات المختلفة؛ فبالنظر إلى تصنيف هذه المشاريع من حيث القطاع، نجد أن مشاريع قطاع المياه والنفايات تحظى بالنصيب الأكبر، حيث يصل عددها إلى 43 مشروعًا تصل نسبتها إلى نحو 40% من إجمالي المشاريع المنفذة، وتليها مشاريع القطاع الاجتماعي وقطاع الرعاية الصحية والتي بلغت 24 مشروعًا، ثم تأتي بعدها مشاريع البنية التحتية في قطاع النقل. ومن الملاحظ أنه عند التدقيق في هذه الإحصائيات- بغض النظر عن القيمة المالية للمشاريع- نجد أن التركيز انصب على المشاريع ذات الأولوية العليا التي تستهدف تحسين جودة حياة المواطنين بوجه عام، وإذا أمعنا النظر قليلًا لظهر لنا جليًا أن هذه المشاريع اكتسبت أولويتها من تماشيها مع توجهات وتطلعات رؤية المملكة 2030 ومستهدفاتها الطموحة لدفع عجلة النمو الاقتصادي في المملكة وتقليل الاعتماد على قطاع الطاقة. ومن الملاحظ كذلك أن اختيار المشاريع التي سيتم تنفيذها يعتمد في المقام الأول على نهج التنمية القائم على التوازن والتنويع الاقتصادي.
يتمثل عامل الجذب الرئيسي للشراكات بين القطاعين العام والخاص في توازن المصالح بين الشركاء، حيث دفع هذا المبدأ العديد من الجهات الفاعلة للدخول في شراكات نظرًا للجهود المبذولة لتوزيع المزايا والمنافع على جميع الجهات بالتساوي دون حصر تلك المزايا على جهة واحدة. ويظهر الأثر المترتب على ذلك في مراعاة الأهداف التي يتطلع كل شريك إلى تحقيقها ومعالجة المشاكل التي يواجهها فيما يتعلق بالمسؤوليات والحوكمة. وعادةً ما يتولى الشريك من القطاع العام مسؤولية جوانب الحوكمة والشؤون القانونية، لكنه يقوم دور محدود في إدارة مخاطر المشروع، والتي يمكن للشريك من القطاع الخاص إدارتها بطريقة أفضل. وعلى مدار العقود القليلة الماضية، تمكن الباحثون والشركات الاستشارية من اكتساب المعرفة المتعمقة بشأن كيفية تطبيق تلك الاعتبارات، ولا سيّما من خلال استخلاص الدروس المستفادة من المشاريع المنفذة بنجاح في مختلف الاقتصادات على مستوى العالم.
وقد أثمرت الشراكات بين القطاعين العام والخاص عن زيادة المنافع المكتسبة والتوجه نحو اعتماد هذه الاستراتيجية؛ على الرغم مما تنطوي عليه من تعقيدات وعدم وضوح في معدل نجاح أي مشروع. كما شهدت معظم الاقتصادات النامية- التي حددت مستهدفات طموحة لتحقيق التنمية بخطوات كبيرة في أقرب وقت ممكن- زيادة مطردة في الشراكات بين القطاعين، حيث من المتوقع أن تحقق مكاسب ومزايا تفوق المخاطر المحتملة. وتتمثل أبز مزايا مشاريع الشراكة بين القطاعين العام والخاص في تسريع وتيرة تطوير البنية التحتية من خلال التدفق المستمر للمدفوعات الرأسمالية المقدمة من الجهات الحكومية الراعية إلى الشركاء من القطاع الخاص. وبدلاً من صرف نفقات رأسمالية ضخمة دون وجود اهتمام فعلي بالمشروع، تمنح الشراكة بين القطاعين العام والخاص خيارًا فعالًا للحكومات بتقديم سلسلة من المدفوعات وأو أحيانًا للشركات الخاصة المساهِمة في مشروع الشراكة. وبصرف النظر عن تجنب استنزاف الخزانة الوطنية دفعة واحدة (نظرًا لارتفاع قيمة مشاريع الشراكة بين القطاعين العام والخاص تُقدر بالملايين)، تعتمد الاعتبارات الأخرى ذات الصلة بالاستراتيجية على الخبرات التي يمتلكها القطاع الخاص في إدارة مشاريع البنية التحتية وتنفيذها بفاعلية. وعليه، تتجاوز المزايا المحققة من هذه الشراكات مجرد التركيز على توليد القيمة إلى تحقيق القيمة المنشودة، والتي تثمر في الغالب عن مكاسب هائلة تنصب على تعزيز الرفاه العام للمجتمع؛ هذه الفكرة كانت أحد أبرز المقومات التي أسهمت في تيسير تنفيذ العديد من نماذج الشراكة بين القطاعين العام والخاص.
ومن بين المزايا الأخرى المحققة من مشاريع الشراكة بين القطاعين العام والخاص الاستفادة من خبرات وإمكانات الابتكار التي يمتلكها القطاع الخاص بفضل ما يتمتع به من خبرات واسعة في تطبيق الإجراءات الفعالة واستخدام التقنيات الحديثة لضمان تنفيذ المشاريع حسب الجدول الزمني المحدد لها. وتطبق الشركات التنافسية نهج قائم على القيمة، ويرتكز على مسارات عمل فعالة يمكن الاستفادة منها وتفعيلها في مشاريع عامة من خلال مشاريع الشراكات بين القطاعين العام والخاص. كما يتيح ذلك تطبيق خبرات وكفاءات البحث والتطوير التي اكتسبتها الشركات الخاصة بمرور السنوات في الشراكة بين القطاعين العام والخاص مما يسهم بدوره في الحد من أي تجاوزات في الميزانية وتقديم جودة استثنائية للمشروع المستهدف؛ ولعل ذلك يوضح السبب وراء إسناد مسؤوليات التصميم والبناء إلى الشريك الخاص في معظم مشاريع الشراكة بين القطاعين العام والخاص.
فضلاً عن ذلك، تشمل المزايا الأخرى المحققة من مشاريع الشراكة بين القطاعين لبعام والخاص انخفاض تكاليف المشروع بالكامل، بعد مرحلة الإنجاز، حيث يسعى القطاع الخاص باستمرار إلى تحفيز نفسه لتحديد فرص التحسين طوال دورة حياة المشروع، ويرتبط ذلك بإجراءات إدارة أداء الأعمال بوجه عام. كما تتيح هذه الحوافز تحسين إدارة المخاطر بمرور الوقت، وهو الأمر الذي لا يستطيع القطاع العام تحقيقه في حالة توليه تنفيذ المشاريع بنفسه. وبالتالي، تنتقل هذه المزايا الإضافية إلى المستخدمين النهائيين في شكل خدمات منخفضة التكلفة، وحينها سيسهم خفض التكاليف بوجه عام في تعزيز الرفاهية ورفع كفاءة استخدام الموارد، نظرًا لقدرة المستخدمين النهائيين على تحقيق دخل أكثر
من ذي قبل.
أما في حالة الاقتصادات التي تمتلك منظومات أقل نضجًا في نقل المعرفة، تُتيح الشراكات بين القطاعين العام والخاص تعزيز قدرات الابتكار ونقل المعرفة على المدى الطويل من خلال تأسيس منظومة تضم مجموعة من الشركات الدولية والشركات المحلية المتعاقدة من الباطن، وبمرور الوقت، سيكون إشراك الشركات الصغيرة التي تعمل مع الشركات الأجنبية الكبيرة شكلاً من أشكال الانفتاح الذي يسّهل نقل المعرفة والمهارات بين الشركاء. كما تمكّن هذه الشراكة الشركات الصغيرة من التوجه نحو تعلم إدارة المشاريع وتحسين تصميم نماذج سير العمل والإدارة العامة للمشاريع مما يساعدها على تطوير المهارات المستقبلية في مجال تخصصها. ومن الأمثلة على ذلك أنه في مشاريع الصيانة التي يجري التعاقد عليها بعد الانتهاء من إنجاز أحد المشاريع، سيكون بالإمكان التعاقد مع شركة محلية لإنجاز خدمات الصيانة المطلوبة. بالإضافة إلى ذلك، تعمل الشركات المحلية على تعزيز خبراتها بمرور الوقت، مما يدعم بناء جيل واعد من قادة الصناعة في المستقبل يتمتعون بدراية تامة بأفضل الممارسات الدولية. فعلى سبيل المثال، بدأت بعض شركات المقاولات الرائدة في البلاد -قبل بضعة عقود- مسيرتها بمشاريع مقاولات صغيرة، لكنها برعت في جمع المعرفة والخبرة بالتعاقد من الباطن مع شركات دولية كبرى، وقد مكنتها هذه المشاريع من تحقيق النمو وتحسين تصميم أعمالها وتعزيز الإدارة العامة لمشاريعها ورفع جودة إنتاجيتها عند المشاركة في مشاريع البنية التحتية للمطارات القائمة على الشراكات بين القطاعين العام والخاص والتي تم إنجازها خلال العقد الماضي. أما الآن، فقد أصبحت هذه الشركات قادرة على تدريب نخبة من الخبراء المحليين، ورسخت مكانتها التنافسية بما يكفي لتأسيس وحداتها الاستشارية الخاصة، مما يمنح الفرصة لدعم جيل جديد من المهندسين ومديري المشاريع وغيرهم من المهنيين. وتتمثل المرحلة التالية في مشاركة هذه الشركات في مناقصات دولية والفوز بعقودها؛ نظرًا لامتلاكها الإمكانات والمقومات الكافية لتعزيز قدرتها التنافسية على المستويين الإقليمي والدولي؛ وذلك كله غيض من فيض من فوائد إبرام الشراكات بين القطاعين العام والخاص.
تم تنفيذ الكثير من مشاريع الإصلاح السريعة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا على مدى العقود الأربعة الماضية. وساهمت وفرة احتياطيات النفط في المنطقة مساهمة كبيرة في التحول الاقتصادي للعديد من البلدان مما ساعدها على تحقيق النمو المستدام. ونتج عن الاستعانة بالشراكات بين القطاعين العام والخاص بوصفها استراتيجية لتطوير البنية التحتية في مختلف القطاعات -بدءًا من النفط والغاز ثم توسعها لتشمل قطاعات أخرى- إقامة علاقات تعاونية بين الشركات الخاصة الكبيرة والصغيرة التي تشكل شراكة مع الجهات الحكومية المعنية. وبالحديث عن اقتصاد كان يقوم على الموارد الطبيعية مثل اقتصاد المملكة العربية السعودية، أسهمت فرص الشراكة بين القطاعين العام والخاص التي تستهدف تنويع التنمية في التخفيف بطريقة أفضل من الدورات الاقتصادية التي تؤثر عادةً على أسعار الطاقة والإيرادات الحكومية المتوقعة. وبالتالي، لا يزال بإمكان اقتصاد المملكة دفع عجلة الإنتاج من القطاعات الأخرى في مواسم انخفاض أسعار الطاقة، مما سيوفر الاستقرار وتنويع مصادر الدخل بوجه عام. وبعد بضعة عقود، وبمساعدة الإصلاحات الداعمة للأعمال التي يتم تنفيذها حاليًا، لم تشهد المملكة فترات ركود طويلة، ولعل أبرز دليل على ذلك هو توقعات صندوق النقد الدولي بالتعافي السريع للمملكة من الركود الناجم عن جائحة كورونا وتحقيقها الصدارة كواحدة من أسرع الاقتصادات نموًا هذا العام. وعليه، فمن المرجح -بعد إرساء هذه الأسس الراسخة ووفقًا للخطط المقررة لطرح 200 مشروع للشراكة بين القطاعين العام والخاص- أن تحقق المملكة العربية السعودية الازدهار الاقتصادي المنشود في إطار أهداف ومكتسبات رؤية المملكة 2030.
خاص_الفابيتا