إن من يمعن النظر في نقاط الاختلاف بين فريقي الاقتصاديين والعقاريين، لن يجد صعوبة في التوصل إلى أهم سبب لذلك الاختلاف، الذي يكمن في الاختلاف الجذري للأرضين التي يقف عليهما كل فريق! فالفريق العقاري تنصب نظرته على نشاطه فقط، ويبحث في جميع السبل التي تدعم هذا النشاط بغض النظر عما هو خارج نشاطهم واهتمامهم، وهو أمر مفهوم بكل تأكيد.
بينما ينظر الفريق الاقتصادي إلى السوق العقارية كجزء لا يتجزأ من الاقتصاد الوطني، ويقرأ ويحلل تطوراته بالأخذ في الحسبان جميع علاقاته المتبادلة كـ "مؤثر ومتأثر" مع بقية نشاطات وقطاعات الاقتصاد الكلي، لهذا فإنه يرى ويشخص من خلال تلك النظرة الشمولية فرصا ومشكلات وتحديات، ومن ثم يقوم بوضع الحلول المتكاملة مع بقية القطاعات والنشاطات الأخرى في الاقتصاد الكلي، ويحرص في هذا الاتجاه على أن تأتي الحلول والبرامج الإصلاحية لجميع تلك القطاعات، ضمن منظومة من السياسات الكلية المتوازنة والمتكاملة بدرجة كبيرة، فتتضافر في مجملها نحو تحقيق الأهداف النهائية للتنمية والاقتصاد من خلال تحقيق الأهداف الجزئية لكل قطاع أو نشاط، لا أن تأتي حلول قطاع بعينه على حساب قطاع أو قطاعات أخرى! ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر في شأن الحديث هنا، ضرورة الأخذ في الحسبان عند تصميم برامج التمويل اللازمة للمستهلكين لأجل تمكينهم من تملك مساكنهم، أن تأتي ضمن ضوابط لا تتجاوز باستقطاعاتها الشهرية "ثلث" دخل المستفيدين، تحقيقا للاستقرار المالي، وحماية للقطاع التمويلي من مخاطر التضخم المحتمل في القيم السوقية لمختلف الأصول والسلع والخدمات بحال لم يتم ضبط الائتمان المحلي، وحمايته أيضا من مخاطر التعثر والتوقف عن السداد، الذي يعد من أكبر المخاطر على أي قطاع تمويلي في أي اقتصاد حول العالم، ولا بد من التحوط المبكر له بالاستعدادات والضوابط التنظيمية الكافية، ولسنا ببعيد عما تواجهه القطاعات التمويلية من مثل هذه المخاطر في عديد من أكبر الاقتصادات في العالم، وعلى رأسها الاقتصادان الأمريكي والصيني، اللذان يواجهان وعديد من الاقتصادات المتقدمة الأخرى مخاطر مرتفعة، توشك على التسبب في إدخال الاقتصاد العالمي ركودا اقتصاديا تضخميا، لحقبة من الزمن لا يعلم أحد أين منتهاها.
إضافة إلى اشتراط أن تحقق برامج التمويل أعلاه الاستقرار المعيشي للأسر، دعما لكل من قدرة الادخار لدى الأفراد، ولقوة الطلب الاستهلاكي المحلي، التي يتغذى عليها القطاع الخاص، وتمكنه من النمو المستدام والإسهام في نمو الاقتصاد الوطني، وزيادة قدرته على تنويع قاعدة الإنتاج المحلية، وزيادة قدرته على إيجاد عشرات أو مئات الآلاف من فرص العمل الكريمة أمام الموارد البشرية المواطنة، التي سيسهم تحققها في تحسن مستوى الدخل، وزيادة حجم الاقتصاد الوطني، الذي يتضمن زيادة مساهمة القطاع الخاص فيه، إضافة إلى تقليص معدل البطالة، وهو من أهم أولويات السياسات الاقتصادية الكلية على الإطلاق. إنها علاقات اقتصادية على قدر عال من التشابك والتعقيد، تؤثر وتتأثر فيما بينها إلى قدر لا يمكن معه الفصل فيما بينها، بل لا بد من الاعتراف بها وأخذها في الحسبان عند تصميم أي برامج وسياسات جزئية لكل قطاع أو نشاط، وأن ترتقي إلى الانسجام والتكامل مع بعضها بعضا في المستويات العليا المكونة للسياسات الكلية.
يمكن الآن فهم الجزء الأكبر من أسباب الاختلاف، ويمكن أيضا فهم جذور اختلاف الأهداف النهائية لكل من الفريقين، ولا حاجة هنا إلى استعراض نقاط الاختلاف المعلومة لدى الأغلبية، بقدر التأكيد على إعادة استقراء تلك الاختلافات من خلال هذه الرؤية التحليلية للأرض التي يقف عليها كل فريق، الذي سيسهل بدوره رؤية القرارات الأجدر باتخاذها في سبيل النهوض بجميع نشاطات وقطاعات الاقتصاد الكلي، والتأكد من أن الجميع سيكون كاسبا في الأجلين المتوسط والطويل، وأن لا أحد سيكون خاسرا في نهاية الأمر، بغض النظر عما قد يتعرض له البعض من تباطؤ أو خلافه في الأجل القصير.
الأمر الآخر الواجب الإشارة إليه، أن تركز التحفيز على أي نشاط اقتصادي بعينه خارج دائرة السياسات والبرامج المتكاملة المشار إليها أعلاه، سيخدم بكل تأكيد ذلك النشاط لفترة زمنية لن يطول مداها "القطاع العقاري الصيني كأكبر مثال"، ثم سرعان ما يتحول إلى مناطق أكثر ضعفا بعد استنفاد جميع أدوات الدعم والتحفيز، وقد تنتقل آثار ضعفه ومشكلاته إلى بقية النشاطات والقطاعات، كما هو حادث الآن في القطاع العقاري الصيني، الذي يواجه معدلات مرتفعة جدا من المديونيات والتعثر! انتقلت مخاطرها لتهدد القطاع التمويلي الصيني، وبقية القطاعات التمويلية حول العالم المرتبطة به، ووفقا لتقييمات أغلب المفكرين الاقتصاديين العالميين، فإن هذه الأزمة العقارية الصينية وتعثراتها الراهنة أمام القطاع التمويلي، تعد أكبر مصدر لخطر سقوط الاقتصاد العالمي في براثن الركود التضخمي، ويفوق في مخاطره ما قد يظنه البعض من احتمال أن يتسبب الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي وبقية البنوك المركزية في حدوث ذلك الركود، التي ما زالت تمتلك القدرة على اتخاذ قراراتها بالتوقف عن رفع معدل الفائدة متى ما رأت عواقب وخيمة للرفع، في حين لم يثبت حتى تاريخه قدرة السلطات النقدية الصينية على إيجاد مخرج للأزمة البالغة التعقيد في قطاعها العقاري المتعثر أمام البنوك الدائنة.
قد لا يقتنع أغلبية الفريق العقاري بأي مما تقدم ذكره أعلاه، ولا أهمية كبيرة في هذا الشأن، بقدر أنه من المهم جدا أن يولي القائم على تصميم السياسات الاقتصادية الكلية هذه الجوانب غاية العناية والاهتمام، وهو الأمر الذي أصبح متوافرا، بفضل الله، تحت مظلة رؤية المملكة 2030، وبدأ الاقتصاد الوطني يجني ثماره في مراحل مبكرة، ويتوقع أن تتنامى بمعدلات أسرع وأكبر مستقبلا.
نقلا عن الاقتصادية