مع موجات الغلاء تكثر المطالبة بالتسعير. والتسعير في الفهم التقليدي يتناول عادة ما يسمى في علم الاقتصاد بالسلع الخاصة المحضة. وللعلم، الخدمات داخلة في مسمى سلع. وتخرج من السلع الخاصة المحضة السلع المدعومة، أو المنوط إنتاجها وبيعها بشركة أو شركات قليلة بعينها. كما تخرج السلع العامة، مثل الشوارع وإنارتها وخدمات الأمن والدفاع، فإن الجميع يستفيد منها.
الأصل عند الفقهاء منع التسعير في السلع الخاصة المحضة. والسبب أن للمال حرمة، والأصل في المعاوضات توافر الرضا بين الطرفين المتعاقدين. ويرى فقهاء جواز أو مشروعية التسعير عند الحاجة. لكن كيف نتعرف على هذه الحاجة؟ هذا شأن عام، ليس خاصا بالفقهاء أو الاقتصاديين أو المسؤولين الحكوميين.
سئل الإمام ابن تيمية عن الغلاء والرخص هل هما من الله تعالى أم لا؟ وكان مما أجاب به في كتابه الحسبة"...أن الغلاء بارتفاع الأسعار، والرخص بانخفاضها، هما من جملة الحوادث التي لا خالق لها إلا الله وحده. والغلاء والرخص لا تنحصر أسبابه في ظلم بعض، بل قد يكون سببه قلة ما يخلق، أو يجلب من ذلك المال المطلوب، فإذا كثرت الرغبات في الشيء، وقل المرغوب فيه، ارتفع سعره، فإذا كثر وقلت الرغبات فيه انخفض سعره...".
وقال، "فإذا كان الناس يبيعون سلعهم على الوجه المعروف من غير ظلم منهم، وقد ارتفع السعر، إما لقلة الشيء وإما لكثرة الخلق فهذا إلى الله، فإلزام الخلق أن يبيعوا بقيمة بعينها إكراه بغير حق... وإذا تضمن العدل بين الناس مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل، ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ زيادة على عوض المثل: فهو جائز، بل واجب". وتفسيرات المؤلف - رحمه الله - خاضعة للتطورات في فهم آلية السوق. مثلا، كثرة الخلق في تعبير ابن تيمية تعني في وقتنا وفي علم الاقتصاد زيادة الطلب. وهو موضوع طويل بحث خارج نطاق المقال.
وقد يرتفع السعر لعامل خارجي مثل انخفاض سعر الصرف، أو رفع السعر من قبل المصدر في حالات الاستيراد. وهناك عامل تضخم العرض النقدي. ذلك أن من خصائص النقود في وقتنا أنه لا قيمة "تقريبا" لها لذاتها، وتبعا تقوم دول بتوليد كميات كبيرة منها، فتنخفض قيمة النقود "التضخم". ولن ينجح التسعير في خفض الأسعار مع بقاء أصل الإشكال، بل سيعمل على جلب المشكلات التي تضر أول المستهدفين من التسعير "ذوي الدخول الأقل" أكثر من غيرهم.
ذكر بعض الفقهاء المعاصرين شروطا في جواز التسعير، لكن من المهم هنا التنبيه على أن الفقهاء يركزون على المبادئ العامة مثل أن الله - سبحانه - يأمر بالعدل، وأن الشريعة جاءت لتحقيق المصالح، أما التفاصيل فتتعدى حدود الفقه، كالتعرف على خصائص السلع ومكان الحاجة وأسباب الغلاء وكيف يسعر.
والحكم على الحاجة أو أن الأسعار أصبحت غير معقولة قد يكون مبررا وقد لا يكون، ولذا فإن الأمر بحاجة إلى معايير يستند إليها. وقد طورت في علم الاقتصاد مجموعة كبيرة من أدوات التحليل اللفظية والكمية التي تساعد على فهم موضوعي حيادي لتركيب وسلوك الأسواق والإنتاج وتحدد الأسعار وحركة العرض والطلب عامة. ويصعب فهم هذه الأدوات على أكثرية غير المتخصصين دون إعطاء شروحات لا تخلو من طول. من هذه الأدوات ذات العلاقة بموضوعنا، التكلفة الحدية والإنتاج الحدي ومرونة الطلب السعرية والإيراد الحدي وقانون تناقص الغلة ومنحنى العرض في الأجل الطويل تحت المنافسة الكاملة وغير الكاملة، وغيرها كثير.
ولنأخذ المثال التالي. لو قال قائل من مواطني دولة متوسط دخل الفرد فيها منخفض مقارنة بغيرها "أغلب الناس في بلدي لا يقدرون على تملك سيارة، نظرا إلى أن أسعار السيارات غير معقولة". ما مدى قوة منطقه بأن أسعار السيارات في بلده غير معقولة؟
هناك نوعان من التسعير، تسعير سقفي أي وضع حد أعلى للأسعار، وتسعير أدنى، أي وضع حد أدنى للأسعار، وأشهر مثال وضع حد أدنى للأجور. وربما وضع سعر ثابت، لا يحق تجاوزه زيادة أو نقصا.
تتدخل الحكومات بالتسعير بصورة مستمرة أو مؤقتة. التدخل المستمر عادة في حالتين:
أولا، خفض أسعار سلع منتجات أساسية عن أسعار التكلفة أو السعر التوازني، عبر تقديم دعم "تحمل بعض التكلفة" مباشرة، أو عبر دعم المنتجين "غالبا المزارعين".
ثانيا، عبر تنظيم السوق للحد من رفع الأسعار عن الأسعار التوازنية أو التكاليف الحدية. أشهر أمثلة التسعير في حالة الاحتكار الطبيعي natural monopoly وتسعير الدواء. ولعل الكهرباء هو أشهر مثال لسلعة احتكار طبيعي.
يتسبب التسعير بطبيعته في جعل الطلب أعلى من العرض. هل يعني ذلك الدعوة إلى عدم تدخل الحكومات؟
ليس الأمر بهذا التبسيط. من المهم التعرف على خصائص السلع، وأن تحلل إنتاجا وتكلفة وبيعا وطلبا، وأن تدرس جيدا آثار ومحاسن وعيوب التدخل، كما أن من المهم أن تدرس بحيادية وموضوعية عن احتمال وجود اختلال بين العرض والطلب. وإن تبين فيعمل على حله. وبصفة عامة، حماية المنافسة من تعمد الإضرار بقوى السوق. هذه الحماية تدخل ضمن أعمال الحكومة في تنظيم regulate الأنشطة ذات الطبيعة التجارية. وتحت هذا التنظيم، أنشأت الدولة الهيئة العامة للمنافسة، والمركز الوطني للتنافسية.
نقلا عن الاقتصادية
شكراً جزيلاً د. صالح السلطان على هذا المقال الدسم الذي يجمعُ ما بين علوم الدين والدنيا.. لفتَ نظري القول (ولعل الكهرباء هو أشهر مثال لسلعة احتكار طبيعي.) وهذا بإعتقادي المتواضع تبسيط كثير لوصف صناعة الكهرباء التي قامت العديد من البلدان بإعادة هيكلتها بغرض إدخال التنافس في بعض قطاعاتها !!.. وكانت البداية في منتصف السبعينيات الميلادية عندما قررت السيدة/مارغريت تاتشر لأسباب سياسية تحطيم نقابات العمال وحزبهم بسبب إضراباتهم المتكررة في مناجم الفحم!!.. أما الفهم الراهن لصناعة الكهرباء فهو هي صناعة قد تكون تنافسية في أغلب تكاليفها مع بعض الإحتكار الطبيعي الذي لا يزيد عن 10% من تكلفتها الإجمالية!!.. فصناعة الكهرباء تتكون من أربعة أنشطة رئيسية: 1) الإنتاج وهو تنافسي وحصته حوالي 65%).. 2) النقل وهو إحتكار طبيعي بسبب السلك الناقل وحصته أقل من 10%.. 3) التوزيع داخل المدن والقرى وهو إحتكار طبيعي بسبب السلك الموزع وحصته بحدود 20%.. 4) المتاجرة وهو تنافسي وحصته حوالي 5% !!.. وعليه، فأن الإحتكار في صناعة الكهرباء هو إحتكار السلك فقط وأثره أقل من ثلث التكلفة الإجمالية للوحدة الكهربائية!!.. أما أفضل الممارسات العالمية الناجحة لهيكلة صناعة الكهرباء فهي النموذج البريطاني حيث تقوم الدولة يتنظيم وتسعبر الجزء الإحتكاري بينما تقوم آايات السوق التنافسي بالسيطرة على تكاليف الإنتاج والمتاجرة.. وتقترح دراسات البنك الدولي بضرورة إدخال عنصر المنافسة إيضاً في نشاط التوزيع الأحتكاري حالياً (20%) عن طريق آلية التنافس على السوق (Competition for the market) مقارنة بالتنافس في سوق الإنتاج (Competition in the market) ... شكراً مرةً أخرى على مقالكَ الثري .. والسلام.