اشتد الجدل أخيرا بين عديد من المحللين الاقتصاديين والماليين من جهة، وعديد من المتاجرين والمضاربين العقاريين والسماسرة من جهة أخرى، حول ما إذا كانت أسعار الأراضي والعقارات قد بدأت تسجل انخفاضا أم لا؟ نشأ هذه المرة من توثيق بيانات وزارة العدل "المصدر الرسمي لنشاط السوق العقارية"، لعديد من صفقات العقار على أراض سكنية في شمال مدينة الرياض، كانت قد سجلت انخفاضا سنويا وصل إلى 42 في المائة، وهو ما شكل مفاجأة غير متوقعة للجميع، جاءت خلال ثاني أكبر وأسرع موجة ارتفاع بالأسعار السوقية للأراضي والعقارات "2019 ـ 2022"، التي سجلتها السوق العقارية المحلية طوال أكثر من ستة عقود زمنية مضت، "الموجة الأولى والأكبر من حيث الارتفاع جاءت في منتصف السبعينيات الميلادية"، وقد سبق الحديث عن أسباب الارتفاعات الراهنة في أكثر من مقال وتقرير سابق، كان من أهمها وأبرزها الارتفاع القياسي للائتمان العقاري الممنوح للأفراد والمدعوم من الحكومة، ووصل إجماليه منذ مطلع 2019 حتى منتصف العام الجاري إلى نحو 465 مليار ريال "البنك المركزي السعودي".
الشاهد مما تقدم، أنه ليس بالجدل الجديد، كما قد يعتقد البعض، بل هو جدل قديم جدا اعتاد القريبون من السوق العقارية عليه، يسخن مرة ويهدأ مرات، وفقا لما يطرأ على تعاملات السوق العقارية المحلية من مستجدات، اعتاد الوسط الاقتصادي والعقاري طوال تلك الفترات الزمنية على النقاش والجدال حول اتجاهات الأسعار وأوضاع السوق. يمكن التأكيد أن من أهم أسباب اكتساب الجدل الاقتصادي العقاري للاهتمام خلال أكثر من عقد زمني مضى، عدا ما شهدته الأسعار من موجات صعود وهبوط طوال تلك الفترة، ولما يمثله جانب تملك المساكن من أهمية قصوى لجميع الأسر، فقد أسهم انتشار مختلف وسائل التواصل الحديثة إلى جانب وسائل الإعلام، في إثراء الحوارات والمنتديات المرتبطة بهذا الشأن التنموي، وجاء كل ذلك طوال الفترة الماضية التي شهدت خلالها السوق العقارية المحلية، كثيرا من التنظيمات والتطورات والتقلبات "صعودا وهبوطا"، تركت وراءها كثيرا من الآثار في أداء السوق العقارية عموما، وفي مستويات الأسعار السوقية لمختلف الأصول العقارية السكنية والتجارية خصوصا، وكان من الطبيعي في ظل انتشار وتوسع وتنوع وسائل الاتصال والإعلام، أن تقترن بتلك المراحل المكتظة بكثير من التطورات التنظيمية والتطورات، مستويات أوسع من الحوارات والاختلافات بين الفريقين "الاقتصاديين، العقاريين"، وما زال قائما وسيبقى كذلك، شأنه شأن الطروحات الأخرى المصاحبة للتطورات الجارية في بقية الأسواق والنشاطات المحلية عموما، وفي الأسواق العقارية على مستوى العالم، وذلك لما يشكله القطاع العقاري من ثقل اقتصادي في جميع الاقتصادات، ولما يمثله من أهمية كبيرة للأسر والمجتمع كطرف استهلاكي، وللشركات والمنشآت كطرف استثماري، ودون إغفال الشركات والمنشآت التي يندرج العقار في قوائمها المالية كعنصر تكلفة "تملكا، إيجارا".
ينطلق الجانب الاقتصادي والمالي في تحليله لأداء السوق العقارية ومستويات الأسعار، من رؤية تشمل جميع قطاعات الاقتصاد الوطني وتحليل العلاقات فيما بينها، والآثار المترتبة لأي تطورات في أي قطاع أو سوق على بقية نشاطات الاقتصاد، ويمتد التحليل الاقتصادي حتى إلى دراسة الآثار الناتجة عن أي من تلك المتغيرات في المجتمع أفرادا وأسرا، وبموجب ذلك يرى الفريق الممثل لهذا الجانب أن أسعار الأراضي والعقارات سجلت قفزات سعرية قياسية طوال الفترة 2019 ـ 2022، وأصبحت تتجاوز كثيرا القدرة الشرائية حتى الائتمانية لأغلبية الأفراد، وهو ما أكده وزير الشؤون البلدية والقروية والإسكان في أحد لقاءاته الإعلامية قبل عدة أشهر قليلة. ويكمل هذا الفريق وجهة نظره بالقول، إنه قياسا على وصول الأسعار إلى تلك المستويات المرتفعة جدا، وبالنظر إلى الارتفاع المطرد في معدل الفائدة على القروض البنكية عموما "ومنها العقارية"، والمتوقع ألا يقف عند مستوياته الراهنة، بل سيواصل ارتفاعه حتى نهاية العام المقبل، حسبما أعلنته البنوك المركزية حول العالم، لمواجهة الارتفاع القياسي في معدلات التضخم، إضافة إلى التراجع اللافت الذي سجلته القروض العقارية للأفراد 18.0 في المائة خلال النصف الأول من العام الجاري، وتزامن معه للفترة نفسها تراجع حجم مبيعات القطاع السكني 22.8 في المائة، كل تلك العوامل الرئيسة وغيرها لا بد أن تنعكس على الأسعار المتضخمة في السوق العقارية بمزيد من الكبح، وأنها ستؤدي في منظور الأشهر المقبلة إلى تصحيحها واستقرارها عند مستويات أكثر عدالة، وأكثر اقترابا من القدرة الشرائية والائتمانية لدى الأفراد، وهو بالفعل ما أظهرته أحدث بيانات للسوق العقارية الصادرة من وزارة العدل، بتباطؤ النمو السنوي للمتوسط العام لأسعار الأراضي والعقارات السكنية من 20.6 في المائة "كانون الثاني (يناير) 2022" إلى 12.3 في المائة حتى نهاية الأسبوع الماضي، وأن التباطؤ الراهن سرعان ما سيتحول إلى انخفاضات متدرجة خلال الفترة المقبلة، مع استمرار ارتفاع معدل الفائدة وتراجع كل من الإقراض العقاري ومبيعات القطاع السكني، إضافة إلى التوسع في استكمال الإصلاحات الهيكلية للسوق عبر تنفيذ بقية مراحل نظام الرسوم على الأراضي البيضاء في أغلب مدن المملكة.
بينما في الجانب العقاري، يتبنى أغلب المرتبطين به وجهة نظر مخالفة لكل ما سبق، والتأكيد على وجود شريحة من العقاريين "مستثمرين، ومطورين" تبنت وجهة النظر نفسها التي طرحها فريق الاقتصاديين والماليين، وهي الشريحة التي اتسمت بخبرة زمنية أطول مقارنة بغيرها من حديثي التجربة في السوق العقارية. ويرى هذا الفريق أن تصحيح الأسعار المرتفعة في السوق غير وارد على الإطلاق، بل ستستمر في الارتفاع طوال الأعوام المقبلة، وأنه لا يوجد أي تأثير لارتفاع معدل الفائدة أو تراجع حجم القروض العقارية، ولا حتى تراجع حجم المبيعات في القطاع السكني تحديدا وفي بقية قطاعات السوق، وأن ما تشهده السوق خلال الفترة الراهنة من ركود، لا يتجاوز ـ من وجهة نظرهم ـ كونه ركودا "مؤقتا" سرعان ما ستتخطاه السوق قبل نهاية العام الجاري، وعلى الرغم من رالي الارتفاع القياسي الذي سجلته الأسعار السوقية لمختلف الأصول العقارية طوال الأعوام الأخيرة، فإنه لم يتجاوز القدرة الشرائية لجانب الطلب، ولا يعد أيضا متضخما، ومن ثم فإنه سيواصل الارتفاع إلى مستويات سعرية أعلى بكثير مما وصلت إليه حتى تاريخه. وأكمل مناقشة هذا الشد والجذب في المقال المقبل بمشيئة الله... يتبع.
نقلا عن الاقتصادية