نعيش في السعودية ولله الحمد في نعمة ووفرة من الخيرات التي وهبها الله لنا، ومع هذه الوفرة لا يخلو الأمر من بعض الظواهر السلبية مثل الهدر في الطعام، فالمطاعم يومياً تلقي عشرات الأطنان من الغذاء الفائض من الزبائن والولائم في النفايات، وقد يكون هذا الطعام بحالة ممتازة، وبنفس الحال فالطعام المتبقي في البيوت والولائم يلقى نفس المصير.
هذا الأمر شديد الخطورة على الأمن الغذائي للمجتمع عامة، ويهدر العديد من الجهود التي بذلها المزارعون والناقلون والتجار وغيرهم في جلب هذه النعمة إلى مكان تناول الوليمة، ففقدان الغذاء هو أحد أكبر عوامل إهدار الموارد بما في ذلك المياه والأراضي والطاقة والعمالة ورأس المال، بالإضافة إلى انبعاث الغازات الضارة بعد دفن تلك النفايات مما يتسبب بالاحتباس الحراري وتغير المناخ، ففقد الغذاء وهدره مسئولان عن حوالي 7 ٪ من انبعاثات غازات الدفيئة على الصعيد العالمي. لهذا يعد هدر الغذاء من أكثر المسائل انتشاراً في مختلف دول العالم، إذ تصدرت هذه المشكلة أول اهتمامات الأمم المتحدة نظرًا إلى تداعياتها السلبية بيئيًا واجتماعياً واقتصادياً.
ويشير مصطلح إهدار الغذاء، بشكل عام، للإنتاج الذي يتخلص منه المستهلك، لكن بالدراسة عن قرب سنجد أن إهدار الغذاء يحدث عادة في مراحل الإنتاج وما بعد الحصاد والتصنيع الغذائي وفى الاستهلاك النهائي للسلع، أما عن حجم المشكلة عالمياً، ووفقاً لمؤشر نفايات الطعام لعام 2021م الصادر عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة، ينتج 931 مليون طن من نفايات الطعام كل عام يأتي 569 طناً منها من المنازل، ويعزى الباقي إلى خدمات الطعام 244 مليون طن وقطاعات التجزئة 118 مليون طن. وأظهر المؤشر أن متوسط نصيب الفرد عالمياً من بقايا الطعام يصل إلى 74 كيلوجراماً سنوياً، فحوالي ثلث الغذاء المنتج للاستهلاك الآدمي يتم هدره أو فقده، بخسارة مالية تقدر بحوالي 1 تريليون دولار أمريكي سنويًا. وهذه الأرقام وفقاً للأمم المتحدة.
ويتم الهدر الغذائي على عدة مراحل، ففي المزرعة يحدث الهدر بسبب عدم كفاية وقت الحصاد، والظروف المناخية والممارسات المطبقة في الحصاد والمناولة، والتحديات في تسويق المنتجات، وفى مرحلة التخزين يتم الهدر بسبب ظروف التخزين الغير مناسبة، والتي تتسبب في أن يكون للمنتجات فترة صلاحية أقصر.
وفى أثناء النقل تعد البنية التحتية الجيدة واللوجستيات التجارية الفعالة عاملين أساسيين لمنع فقدان الغذاء. وتلعب المعالجة والتعبئة دورًا في حفظ الأطعمة، وغالبًا ما تحدث الخسائر بسبب عدم كفاية المرافق أو عطل فني أو خطأ بشري. وفى المتاجر ترتبط أسباب هدر الطعام على مستوى البيع بالتجزئة بمدة الصلاحية المحدودة، والحاجة إلى تلبية المنتجات الغذائية للمعايير الجمالية من حيث اللون والشكل والحجم والتنوع في الطلب. وفى المنزل غالبًا ما تكون نفايات المستهلك ناتجة عن سوء الشراء والتخطيط للوجبات، والشراء الزائد والسلوك الاستهلاكي المفرط. أما عن السعودية وحجم الهدر الغذائي الكبير، فوفقاً للمؤسسة العامة للحبوب، فقد بلغ الهدر الغذائي ما يتجاوز سنويًا أكثر من 18.9% من الغذاء، حيث تقدر قيمة الهدر الغذائي سنوياً بـ 40 مليار ريال. ويتصدر قائمة الأطعمة المهدرة الأرز وتصل نسبته إلى 30% من قيمة الطعام المهدر، ويليه الدقيق والخبز وتصل نسبته إلى 25% من قيمة الطعام المهدر، وهي نسب كبيرة جداً تستدعي الوقوف معها ومعالجتها.
وبالنسبة لأسباب الهدر، فيحدث الهدر في الطعام في جميع مراحل الانتاج مع بعض الخصوصية، فمثلاً يحدث الهدر بسبب استخدام بعض الوسائل البدائية التي يستخدمها المزارعون في الزراعة، بالإضافة إلى استقدام العمالة غير المدربة في الزراعة بسبب انخفاض الرواتب، كذلك الاستخدام غير الجيد للأسمدة ووسائل محاربة الأوبئة، بالإضافة إلى الهدر في عمليات النقل والتخزين بسبب ارتفاع درجة الحرارة معظم أوقات العام.
ثم الجانب الأبرز للهدر في السعودية وهو الجانب السلوكي للفرد والمجتمع والمباهاة، فيعتبر هدر الطعام في مجتمعنا مشكلة سلوكية مستمدة من عاداتنا وأعرافنا وتقاليدنا وسلوكياتنا، إذ تهدر كميات ضخمة أثناء الاحتفالات والمناسبات الاجتماعية
والولائم واللقاءات الأسرية وفي المطاعم والفنادق. كما يسهم اعتماد أساليب تسوق مفرطة والانسياق وراء العروض وشراء الأشياء الزائدة عن الحاجة، بالإضافة إلى عدم التخطيط للوجبات إلى زيادة في الهدر.
أما عن الحلول، فمعرفة الداء هو أول طريق العلاج، فهدر الطعام مسألة متوارثة على مدار عقود في السعودية، نعرف أسبابها وطرق علاجها، الأمر فقط يحتاج إلى مزيد من الإرادة، وقد كشفت جائحة (كوفيد -19 ) وما تبعها من نقص في الإمدادات والغذاء والسلع ثم الحرب الروسية - الأوكرانية وتعطل خطوط النقل والشحن وارتفاع أسعار الغذاء بشكل جنوني في كل دول العالم أن الوقت قد حان ولا مجال للتأخير لاتخاذ ما يلزم لمواجهة هذه الظاهرة، فنحن أولاً نحتاج إلى تقليل الهدر في مراحل الإنتاج الأولي قبل الوصول إلى المستهلك النهائي من خلال وضع سياسات توعوية لتفادي مشاكل الزراعة والحصاد، ورفع كفاءة المخازن والثلاجات، واعتماد أساليب متطورة لنقل الغذاء وتوزيعه.
وثانياً، نحتاج إلى تحرك فورى على المستوى المؤسسي والتشريعي من خلال سن التشريعات التي تبدأ بالتوعية والتثقيف وتنتهي بفرض غرامات كبيرة على من يقوم بعملية الهدر، وإلزامه بتقديم فائض الأغذية للمؤسسات الخيرية بالتنسيق بين الوزارات والهيئات الحكومية، فضلا عن توسع جمعيات حفظ النعمة، فدورهم مهم جداً في عملية حفظ الغذاء وعدم اهداره، بالإضافة إلى اطلاق الحملات التوعية المستمرة من جانب المجتمع والمؤسسات الحكومية للتوعية بأضرار ومخاطر هدر الطعام والاستهلاك الغير منظم للغذاء وما ينتج عنه من مخاطر صحية جسيمة.
وأخيراً، دور الفرد - الذي هو بمثابة حجر الأساس - وضرورة تعديل سلوكه الاستهلاكي، من خلال التسوّق بذكاء وحكمة، وتجنب الإفراط في الشراء، ومراقبة تاريخ انتهاء صلاحية الغذاء، كذلك تخزين الغذاء بطريقة آمنة وفي الأماكن الصحيحة، والتأكد من برودة الثلاجة والبراد على الدوام، والتبرع بالغذاء لبنوك الأطعمة لمساعدة الأشخاص الأكثر حاجة وبالتالي تفادي الهدر.
ولعل تعاليم ديننا الحنيف تدعونا إلى الترشيد وقد كان النبي صلوات الله وسلامه عليه أكثر الناس تقديراً وحفظاً لنعم الله تعالى وأبعدهم عن الإسراف والتفاخر بها وإهدارها، رغم انفتاح الدنيا له وإقبالها عليه إلا أنه لم يصرف هذه النعم إلا في طاعة الله دون إسراف، وقول الله أبلغ {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}، صدق الله العظيم.