يأتي هذا المقال استكمالا لمقال الأسبوع الماضي بشأن حوكمة اقتصادات كرة القدم: "اللعب المالي العادل"، وذلك بعد أن اعتمد مجلس إدارة الاتحاد السعودي لكرة القدم عمل اللجنة التأسيسية لقانون اللعب المالي العادل، وهو الخبر الذي نشرته وكالة الأنباء السعودية "واس" قبل نحو أسبوعين وأشار إلى أن الهدف في المرحلة الأولى هو إعداد اللوائح والتنظيمات لضمان ضبط كفاءة الإنفاق والإسهام في الاستقرار المالي وإيجاد الاستدامة المالية، بما يحقق التوازن المالي بين الإيرادات والمصروفات، وذلك من خلال العمل المشترك مع لجنة الكفاءة المالية في وزارة الرياضة، ودراسة وتحليل القوائم المالية للأندية الصادرة في 30 حزيران (يونيو) الجاري واستخراج المؤشرات المالية التي تتركز في تحديد نسبة عجز مسموح به، على أن تنخفض هذه النسبة تدريجيا سنويا، وتحديد نسبة الرواتب والمصاريف المتعلقة بنشاط كرة القدم، حيث لا تتجاوز نسبة معينة من إيرادات النادي.
هذه القضايا المحاسبية الدقيقة جدا تتطلب من الأندية السعودية وقبل بناء نظام الحوكمة المتكامل أن ترتكز على نظام محاسبي، وهذا الموضوع حاسم جدا في تحقيق متطلبات اللعب المالي العادل، فلا يمكن تحقيق مفهوم التوازن المالي بين الإيرادات والمصروفات ما لم يكن هناك تحديد دقيق لتعريف، وإثبات في غاية الدقة لهذه الإيرادات والمصروفات، وذلك كما يقتضيه أساس الاستحقاق والمعايير المحاسبية ذات الصلة، فكثير من الأندية السعودية لم تزل تعتمد على نظام محاسبي ضعيف يرتكز على الأساس النقدي، وهو ما يفوت عليها فرص الاعتراف بإيرادات مهمة أو يجعلها تفقد القدرة على تحقيق التوازن المطلوب بين الإيرادات والمصروفات، ولقد ناقشت منذ أعوام عدة مشكلة الديون في الأندية وحالة أحد الأندية الكبيرة وفشله حتى في معرفة أصحاب الديون ومن هو المتسبب فيها، وفي ذلك الحين طالبت بتطبيق قواعد حوكمة صارمة أو تطبيق أدوات محاسبية أكثر حزما مع الأندية، واليوم أصبحت الأمور أكثر حزما، والأندية أمام حالة أكون أو لا أكون، ونقطة البداية هي نظام محاسبي دقيق وفقا لمعايير المحاسبة ذات الصلة.
بعد ضمان تطبيق نظام محاسبي دقيق يشمل حتى تعيين كوارد بشرية مختصة في المحاسبة، فإن الخطوات التالية ترتبط بآليات تحديد نسبة الرواتب المتعلقة بنشاط كرة القدم خصوصا، حيث لا تتجاوز نسبة معينة من إيرادات النادي. هذه العبارة مهمة جدا، فما ستقوم به اللجنة التأسيسية لقانون اللعب المالي العادل هو وضع هذه النسبة، لكن قيمتها الفعلية هي بيد الأندية وجماهير النادي فقط، وهناك تكمن معادلة اللعب العادل، فالأصل أن لعبة كرة القدم هي للجماهير وإسعادهم، خاصة في إجازة نهاية الأسبوع، وتدفق الجماهير نحو المدرجات هو معنى اللعب العادل، وهذا يتطلب من الأندية اختيار أفضل اللاعبين من أجل إمتاع الجماهير، من أجل احترام الرياضة، وتقدير المتابعين. كلما تمكن النادي من جمع أفضل اللاعبين واستطاع اللاعبون إبهار الجمهور بالأداء الكبير، والركض المستمر في الملعب، تتضاعف الإيرادات على شكل حضور جماهيري يغري الشركات الراعية والإعلانات وشركات البث الحصري، بالتالي تتفوق الإيرادات على المصروفات ويستطيع النادي دفع الأجور بسهولة دون تراكم ولا قضايا ولا تدخل من أعضاء الشرف، فالجماهير السعيدة ستسدد فواتير اللاعبين، لكن هذه المعادلة الصحيحة تختل عندما يذهب رؤساء الأندية وأعضاء الشرف في سباق غير رياضي ولا عادل من أجل زيادة أجور اللاعبين في مزايدات مجنونة لا تبررها إيرادات النادي، ولا حتى إنجازاته، ثم يفوز النادي الأكثر جرأة أو قل الأقل محاسبة وحوكمة، ثم تتراكم الديون وينتهي اللاعب الأغلى سعرا بسرعة نهاية أول موسم، بلا إنجازات ولا جماهير، وتبقى المحاسبة وحراس المحاسبة في ذهول، إذ كيف يمكنهم تسجيل هذه المعاملات الاقتصادية في الدفاتر، وكيف نثبت أجور لاعبين لم يلعبوا أصلا، وكيف نقسم تكلفة لاعب على عدد المباريات التي لعبها لنعرف إسهامه في الإيرادات وهو لم يلعب سوى مرة واحدة. وإذا كانت الحال هذه فلماذا تم شراء اللاعب ومنافسة الآخرين عليه وهو لم يلعب أو لم يسهم في أي نتيجة تذكر، وكيف أن ديون النادي تصل إلى ديون دولة نامية بينما هو ينازع على الهبوط، ثم تبقى الجماهير في نهاية الموسم تتابع بأسى أو قل ما تشاء والشكوى التي تقدم بها اللاعب أو ناديه السابق وكيف لم تسدد رواتبه ولم تنفذ وعوده، وذلك قبل أن ينطلق موسم مزايدات جديد تغذيه المنصات الإعلامية ومحللو منتصف الليل.
اللعب المالي العادل يتطلب أن تكون قرارات شراء اللاعب وتكلفة انتقاله مدروسة تماما، وأن يسهم اللاعب في دعم الإيرادات كتبرير وتفسير لحقه في أخذ الأجور التي تدفعها الجماهير، وهذه هي النقطة المفصلية، فاللعب المالي النظيف يعيد للجماهير حقها في قرارات النادي، فإذا لم تعجبها القرارات ولا أداء اللاعبين ولا النتائج عزفت عن الحضور، وتراجعت إيرادات النادي مهما كانت قوة أعضاء الشرف، فالجماهير هي النادي، الجماهير هي التي تدفع الأجور، الجماهير هي من سيعاقب بالهبوط وهي التي ستقرر في النهاية من يصل إلى القمة ومن يستحق أعلى أجر، فالأندية التي تبنيها مدرجات الجماهير غير الأندية التي تبنيها أموال أعضاء الشرف، هكذا ستكون الصورة، لكني أقف هنا وأتحفظ على كل مقالي لأقول "إن ذلك مرهون تماما لوزارة الرياضة في تطبيق قانون اللعب المالي العادل، ومرهون بتفسير كلمة الإيرادات وفقا للمعايير المحاسبية فقط، وأكرر المعايير المحاسبية فقط وعدم ترك تعريف الإيرادات لغير المحاسبين".
نقلا عن الاقتصادية