في أحد أعوام دراستي في كلية الشريعة في الرياض، اخترت الكتابة عن الاحتكار وأحكامه في الفقه. كان مطلوبا من الطالب كتابة بحث قصير كل عام دراسي. المشرف أستاذ فقه، والمراجع فقهية، وكتابتي كلها كانت وفق المنهجية الفقهية: البدء بالتعريفات لغة وشرعا واصطلاحا، ثم ذكر الآراء الفقهية مع أدلتها ثم المناقشة والترجيح. ثم شاء الله لي أن أدرس علم الاقتصاد في جامعة الملك سعود خلال دراستي الشريعة وبعدها. كان من ضمن ما درست في النظرية الاقتصادية الجزئية أنواع الأسواق، ولفتت انتباهي أمور.
أولها، أن موضوع ومنهجية البحث في كل علم من العلمين مختلفة عن الآخر اختلافا يفوق ما توقعته كثيرا.
وفقا للدكتور يعقوب أباحسين، أستاذ أصول الفقه في كلية الشرعية في الرياض، في كتابه "أصول الفقه.. الحد والموضوع والغاية" 1408، مع بعض الاختصار: "الفقه في اصطلاح الفقهاء، أطلق للدلالة على أحد المعنيين: الأول حفظ طائفة من مسائل الأحكام الشرعية العملية الواردة في الكتاب والسنة، وما استنبط منها. والثاني مجموع الأحكام والمسائل الشرعية التي نزل بها الوحي، والتي استنبطها المجتهدون أو اهتدى إليها أهل التخريج، أو أفتى بها أهل الفتوى عند الفقهاء" (ص: 56).
أما عند الأصوليين فالتعريف الشائع - وفقا للمصدر السابق - هو: "العلم بالأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية"، (ص: 68).
أما علم الاقتصاد فلا يعلم أحكاما لا فقهية ولا قانونية، ولا شأن له بذلك، بل يحاول فهم السلوك الاقتصادي واستخدامنا للموارد باستخدام لغة السببية، ولغة الكم، مستندا إلى مجموعة من المسلمات والافتراضات على رأسهما وجود رغبات لا تنتهي، وموارد لها مقادير، وليست متاحة كما نشتهي. وتجري محاولة الفهم بالشرح اللفظي مع التوضيح بالرسم البياني البسيط للمبتدئين، ثم التركيز على استخدام رياضيات وطرق كمية، تزداد تقدما في الدراسات العليا. وفي هذا يجنح علم الاقتصاد إلى ترك أو قلة الاهتمام بدراسة السلوكيات الاقتصادية التي لا تقبل أو يصعب أن يعبر عنها كميا. وهذه السلوكيات قد تدرس لهدف آخر في علوم أخرى، كعلم النفس والاجتماع والتسويق.
وفقا للمنهجية السابقة يحاول علم الاقتصاد فهم كيفية عمل الأسواق، وخصائصها من حيث الأنواع والسعر والعرض "الإنتاج" والفعالية "أو الكفاءة" والربح. ويبين تبعا لهذا الفهم، تأثير كل سياسة حكومية للتعامل مع الأسواق، ومنها الاحتكارية.
لكن ما معنى كلمة احتكار؟ المعنى الشائع حاليا يعني ما تعنيه الكلمة الأعجمية monopoly، فهو ترجمة لها. هل يتطابق هذا المعنى مع معنى احتكار في اللغة العربية الفصحى، وفي علم الفقه؟ لا، بل هناك خلافات. ورغم ذلك وجدت بعض من كتبوا عن الاحتكار في أحكام المعاملات الاقتصادية كتبوا مقارنين بين أحكام الاحتكار في الفقه وعلم الاقتصاد المعاصر. ومما ذكروه أسبقية الإسلام في النهي عن الاحتكار جاهلين أو متجاهلين وجود اختلاف كلي أو جزئي في المعنى. لذا يقع الإنسان في حرج حين يسمع أن الاحتكار حرام، وفي الوقت نفسه يعرف أن بعض السلع والخدمات السوقية محتكرة "بفتح الراء، وحسب المعنى الشائع لكلمة احتكار، وليس المعنى الفصيح باللغة العربية"، بقرارات من الدول وتأييد من الاقتصاديين. والمشكلة إذن ليست مجرد مشاحة في الاصطلاح.
من المعروف أن دلالة كثير من الكلمات تتعرض عرفيا للتغيرين الكلي أو الجزئي مع مرور الأعوام. والمعاني التي نقرأها في معاجم اللغة المشهورة القديمة، كلسان العرب، تعني المعاني والدلالات اللغوية الفصيحة عند العرب عند ظهور الإسلام. وهذا أمر لا نجده في لغات أخرى كالإنجليزية.
جاء الإسلام وجعل لبعض الكلمات العربية معاني شرعية "مثل الإيمان والكفر والصلاة والصيام والحج"، كما أعطى الفقهاء خلال القرون الأولى من ظهور الإسلام بعض الكلمات دلالات ومعاني محددة اصطلاحية، وهناك مناسبة قوية بين الأصل اللغوي والمعنيين الشرعي والاصطلاحي. ولا يعني ذلك بالضرورة أن الفقهاء متفقون على التعريفات والدلالات، لكن المعاني اللغوية للكلمات معروفة بينهم، كما أنهم متفقون على مبادئ جامعة، وإن اختلفوا في تفاصيل.
مقابل الصورة السابقة اختيرت كلمات عربية ترجمة لمصطلحات ومسميات في عوالم القانون والاقتصاد والمال المعاصر. هذه المصطلحات والمسميات تطورت معانيها في الغرب، تبعا للثورة الصناعية. وليس من اللازم أن تكون معانيها متفقة مع المعاني والدلالات اللغوية و/أو الفقهية للكلمات العربية التي اختيرت لتكون ترجمة. وهنا تقع مشكلة اختلاط المفاهيم.
وزيادة في التوضيح يستعمل بعض المختصين في الفقه تعبيرات شائعة الانتشار في القانون والاقتصاد والمال وعلوم أخرى ويقصد بها أولئك الفقهاء معاني لا تنطبق بالضرورة على المعاني المقصودة لدى الاقتصاديين، والمهتمين بالشأن الاقتصادي من غير علماء الدين من رجال أعمال وصانعي قرار ونحوهم. وحدوث العكس واقع، وأقصد أن استعمال المختصين في الاقتصاد كلمات متداولة في اللغة والفقه ويقصدون بها في الأغلب معاني حديثة، استفيدت من الغرب، ليست هي بالضبط المتبادرة إلى فهم الفقهاء عبر مئات الأعوام.
بضاعة أغلب الفقهاء بلغات ما يسمى العلوم العصرية "غالبا ما تكون الإنجليزية" ضعيفة نسبيا غالبا. وبالمثل بضاعة معظم دارسي علم الاقتصاد economics بمصطلحات الفقه ضعيفة نسبيا غالبا.
وترتب على اختلاط المفاهيم أن أصدرت أحكام أو آراء على تصرفات تحمل مسميات واحدة لدى الفقهاء والاقتصاديين لكنها مختلفة من حيث المعنى اختلافا كليا أو جزئيا، والسبب صعوبة الترجمة المطابقة. وصار الوضع أن "العبرة بالألفاظ لا بالمعاني"، عكس ما كان يفترض.
نقلا عن الاقتصادية