هل ستصنع الحرب الروسية نظاما اقتصاديا جديدا؟

05/04/2022 1
د. محمد آل عباس

في أوائل القرن الماضي، تسيدت الولايات المتحدة العالم الصناعي وأصبحت سلعها مطلوبة في كل مكان، فتزايد الطلب على ورقتها النقدية حتى غدت ضرورة لكل من يريد السلع والرفاهية، وبعد الحرب العالمية الثانية خرجت الولايات المتحدة أكثر قوة، بينما غرقت أوروبا في بحر من الدمار، مع تنفيذ خطة مارشارل لترميم أوروبا، كان لزاما طباعة الدولار دون غطاء من الذهب، فتحول العالم من قياس الدولار بالذهب إلى قياس الذهب بالدولار، كل من يريد من العالم سلعا كان عليه أولا أن يحصل على الدولار، ثم يقايض الدولار الذي معه بالسلع من العالم، وهذا صحيح في شأن النفط والطاقة حتى القمح والغذاء، الجميع يريد الدولار، ثم تحول هذا إلى عقيدة اقتصادية. لكن العالم تغير منذ الأزمة المالية 2008، خطة التيسير الكمي وسرعة المطابع الأمريكية في طباعة الدولار، فانخفضت القوة الشرائية للدولار، وبمعنى آخر ارتفعت أسعار السلع، فواجه العالم في الأعوام من 2009 حتى 2011 ارتفاعات في أسعار الغذاء وارتفعت أسعار النفط حتي مستويات قياسية، وبدأ النقاش حينها حول تسعير النفط مقابل الدولار، وعزز ذلك التقلبات الحادة في أسعار النفط التي تلت الأعوام منذ 2014. لكن العقيدة الاقتصادية العالمية كانت أشد من قدرة أي دولة منفردة على اتخاذ قرار ببيع النفط بأي عملة أخرى، فضلا عن بيع أي سلعة عالمية أخرى. فهل كان العالم يحتاج إلى حرب عالمية ثالثة كالتي روعت العالم في القرن الـ20 حتى تتغير العقيدة الاقتصادية؟

لقد بدأت المعركة الاقتصادية بين روسيا والغرب منذ اجتاحت جزيرة القرم، وفي المقابل بذل الرئيس الروسي جهودا كبيرة طوال السبعة أعوام الماضية لتحصين اقتصاده من خلال بناء دفاعات مالية عملاقة، ومع اندلاع الحرب في أوكرانيا قامت دول الاتحاد الأوروبي بتجميد أرصدة بنوك ورجال أعمال روس ومسؤولين كبار حتى الرئيس بوتين ووزير خارجيته سيرجي لافروف، وانضمت الولايات المتحدة وبريطانيا للعقوبات، ثم تطورت الأمور لجمع الأموال الروسية في الخارج ومشروع خط الغاز نورد ستريم2 والحد من قدرة روسيا على الحصول على التقنية، ثم تصاعد الأمر حتى طرحت فكرة عزل عدد من البنوك الروسية الكبرى عن شبكة "سويفت"، وهو نظام تستخدمه البنوك حول العالم لتسوية المعاملات والمدفوعات السريعة عبر الحدود بما يمكن التجارة الدولية من الاستمرار بسلاسة، وهذا كان أشد تهديد اقتصادي لروسيا، فلا يمكن للشركات الروسية تسوية تجارتها العالمية دون هذا النظام، هنا عادت مرة أخرى فكرة بيع النفط بعملة غير الدولار، مع تصريحات بوتين، ووفقا لما نشرته وكالات الأنباء فقد قال بوتين مقولة تاريخية: "لا معنى لتوريد السلع الروسية للاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وتلقي المدفوعات باليورو والدولار"، ومعنى مقولة بوتين هذه، أن من يريد النفط والغاز والسلع الروسية فليدفع بالروبل الروسي، وليس الدولار، لأن الشركات الروسية تريد الروبل ولا تريد الدولار، هذا هو ما أقصده بالتحول في العقيدة الاقتصادية، من يحتاج الآخر، هل روسيا بحاجة إلى السلع الأوروبية أم أن أوروبا بحاجة إلى السلع الروسية؟، إذا كانت روسيا بحاجة إلى السلع الأوروبية أو الأمريكية أكثر من احتياجهم إلى السلع الروسية، فإن خطة بوتين لتغيير العقيدة الاقتصادية العالمية لن تفلح، وإذا كان العكس، فإن أوروبا حاصرت نفسها بدلا من حصار روسيا، لكن الحقيقة أكبر من هذا التبسيط، ذلك أن حل هذه المعادلة ليس بيد روسيا ولا أوروبا، بل بيد العالم الثالث المحايد، من كان بحاجة إلى السلع الروسية أكثر فسينضم لحزب روسيا، ومن كان بحاجة إلى السلع الأوروبية أكثر فسينضم للحزب الأوروبي، ولعل الصين تغير قواعد اللعبة تماما لو انضمت للمعركة الاقتصادية، ما لم يجد العالم نظاما اقتصاديا هجينا، نظاما يمكن فيه تسوية التعاقدات بالدولار في الغرب، وتسوية المعاملات بالروبل أو اليوان في الشرق، لكن هذا سيجعل آليات التسعير العادلة في الأسواق العالمية هجينة أيضا، ويصبح لكل سلعة سعرين، أو هكذا ستبدو الصورة، أو ينهزم أحد الطرفين في هذه المعركة الاقتصادية العالمية الكبرى، وإما يعود الدولار أشد قوة أو ينتهي عصره للأبد.

تبدو السيناريوهات أكبر وأخطر مما نتصورها اليوم، ذلك أن فقدان الدولار لدوره في تسويات التجارة الدولية يعني تذبذبا كبيرا في الأسعار، نظرا لعدم قدرة أي عملة على صناعة توازن من المعروض النقدي العالمي، وإذا عاد الجميع للذهب، فإن بعض الدول قد تواجه فقرا مدقعا نظرا لعدم توازن المخزونات العالمية واختلالها منذ زمن بعيد، وقد يكون العالم أمام نظام جديد تماما تتفق فيه الأمم المتحدة على عملة جديدة من سلة عملات الدول المنتصرة، أو عملة رقمية جديدة تعتمد على سلاسل الكتل تحت إشراف دولي، لكن مع كل هذه الاحتمالات، فإن ما فعلته أوروبا والولايات المتحدة من إخراج روسيا من نظام سويفت قد غير العالم بلا رجعة، وعلينا أن نستعد.

 

نقلا عن الاقتصادية