قرأت كلمة (واحة) أوّل مرة وأنا طفل في الابتدائي!.. وأحببت الاسم والمُسمّى.. وعرفت أن (الواحة) تظهر للمسافرين في متاهة الصحراء وقد هدّهُم طول الطريق ورياح السموم ووحشة الصحراء الجرداء من النبات، الجدّاء من الماء، والتي تعوي فيها الرياح وترتد حسرى كسيرة تلوذ بأطراف الجلاميد وتضيع في متاهة الصحراء بعد أن تكرم المسافرين والسارين بلفحات من السموم في الصيف وبصفعات من الزمهرير في الشتاء، حتى يضربهم الجوع والظمأ ويهدهم الكلال وهم يواصلون المسير والسرى ليل نهار في صراع مع البقاء، حتى إذا لاحت لهم (واحة الأحساء) من بعيد وفي عمق الصحراء الميتة الجرداء هللوا وكبروا، وفرحوا واستبشروا، ورفعوا ايديهم بالشكر لربِّ الأرض والسماء، ففي واحات الصحراء راحة من تعب، وشبع من جوع، وريّ من ظمأ، وأنس من وحشة، ورفقة بعد وحدة، وخضرة بعد شهبة، وأنسام عليلة بعد لفح رياح الصيف المخيفة، فيغذون الخُطى نحو (الواحة) وقد انفرجت أساريرهم العابسة وطفحت وجوههم اليابسة بالسرور والبشرى، فقد آنَ لهم أنْ يذوقوا طعم الحياة الحلوة، وأن يستظلوا بغابات الأشجار والنخيل، وأن يهنأوا بالماء الزلال، وأن يهدأوا من زلازل الصحراء وينجوا من غائلة الموت، ويلجأوا إلى أرض حبيبة محبوبة تفوح بروائح النبات الزكي، وتلوح بأغصان النحيل وثمره الشهي، وتموج بجداولها الرقراقه، وعيونها التواقه، وتزدان بتغاريد الطيور وألوان الزهور.
فما ظَنُّكَ بأعرابٍ أضناهم طول السرى؟ وأنهاهم الجوع والظمأ؟ وأوحشهم موات الصحراء؟ ما ظنك بهم إذا وصلوا الأحساء، تلك الواحة الخضراء الوارفه بأشجارها والجارية بمياهها والزاهية ببساطها الأخضر والمرحة بحركات زهورها وأصوات طيورها؟.. لا شك أن منظر الواحة في متاهة الصحراء أحلى وأشهى من منظر الغادة الحسناء في أبهى بهاها وميعة صباها، هنا يشهق الأعراب من الدهشة، وتذرف عيونهم من الفرحة، ويحسون بنسيم النعيم وجمال الوجود، وحلاوة الحياة.. كيف لا وقد وصلوا (واحة الأحساء) أكبر وأجمل واحة في الدنيا؟ وناسها أطيب ناس، أخلاقهم أحلى من التمر الخلاص الذي تجود به أرضهم بلا حساب ولا قياس؟ وعيون الماء عندهم تفيض وتروي العليل وتسقي أرضهم المعطاء لتزدهر بالخصب والنماء، وأشجار النخيل في هذه الواحة العظيمة غابات غابات، تستقبل الزائرين بهز عسبانها بالترحيب، وميلان عذوقها بالكرم والمنظر الباسم الخصيب، وتستقبل شروق الشمس بأعطر نَفَسٍ وأطيب نَفْس، وتستقبل الغروب بأجمل منظر تراه العين حين تبدو النخيل حالمة في منظر جميل، وعسبانها قد مسّها قدوم المساء بمنظر شاعري نبيل وَذَهَبّتْ أطرافَها شمسُ الأصيل؟..
والطفل الذي قرأ (الواحة) وهو في الابتدائي وأحبها ولم يرها.. رآها حين زار الأحساء أول مرة.. فخرجت عيناه من محاجرها إعجاباً ودهشة.. وتهلّل وجهه بالانبهار والفرحة.. وسبّح بإسم الخالق العظيم.. وردد من القلب: ماشاء الله! تبارك الله!.. أكبر واحة في الدنيا.. وأجمل واحة في الدنيا.. موجودة في بلادنا العريقة العظيمة.. واحة الأحساء الكريمة.. التي تلتحف بعسف النخيل وتتحلى برحيق الزهور.. وتطرب لتغريد الطيور.. وتمرح مع خرير الجداول وتسمع ما أوحت به الزهور للطيور وماقالت ِالريحُ للنخيل.. تمتلىء عيون أهلها بالمودة.. والمحبة.. والكرم.. والترحيب.. كما تفيض عيون مائها بالخصب والنماء.. والبذل والعطاء.. وتحتفظ أرضها بذكريات التاريخ العريق والحاضر المجيد.. في الأحساء- بهفوفها ومبرزها وقارتها وأخاديدها وهفوفها وآثارها الشامخة وتراثها العريق الأصيل الذي مازالت تحافظ عليه حتى اليوم.
تلتحف بسعف النخيل وتمرح مع جداول الماء وتفخر بأمجاد التاريخ
أمّ النخيل - إلى أمي.. الهفوف -:
أتذكُرينَ صبيّا عادَ مُكتهلا
مسربلاً بعذابِ الكونِ.. مُشتملا؟
أشعاره هطلتْ دمعاً.. وكم رقصتْ
على العيونِ، بُحيراتِ الهوى، جَذلا
هُفوفُ! لو ذقتِ شيئاً من مواجعهِ
وسّدتِهِ الصدرَ.. أو أسكنتِه الخُصَلا
طال الفراقُ.. وعذري ما أنوءُ بهِ
يا أمّ! طفلُكِ مكبولٌ بما حَمَلا
لا تسألي عن معاناةٍ تمزّقني
أنا اخترعتُ الظما.. والسُّهدَ.. والملَلا
هل تغفرينَ؟ وهل أمٌّ وما نثرتْ
على عقوقِ فتاها الحبَّ والقُبُلا
ضربتُ في البحرِ.. حتى عدتُ منطفئاً
وغصتُ في البرّ.. حتى عدتُ مشتعلا
أظما.. إذا منعتني السحبُ صيِّبَها
أحفى.. إذا لم تُردني الريحُ مُنتعلا
ويستفزُّ شراعي الموجُ.. يلطمُهُ
كأنّه من دمِ الطوفانِ ما غُزلا
ورُبَّ أوديةٍ.. بالجنِّ صاخبةٍ
سريتُ لا خائفاً فيها.. ولا عَجِلا
تجري ورائي ضباعُ القفرِ.. عاويةً
والليثُ يجري أمامي.. يرهبُ الأجَلا
كأنّما قلقُ الجُعْفيّ.. يسكنني
هذا اللي شَغَلَ الدنيا.. كما شُغِلا(١)
أمَّ النخيل !.. هَبيني نخلةً ذَبُلتْ
هل ينبتُ النخلُ غضّاً بعد أن ذَبُلا؟!
يا أمُّ.. رُدّي على قلبي طفولَته
وأرجعي لي شباباً ناعماً أفِلا
وطهّري بمياهِ العينِ.. أوردتي
قد ينجلي الهمُّ عن صدري إذا غُسِلا
هاتي الصبيَّ.. ودُنياه.. ولُعبَتَه
وهاكِ عُمري.. وبُقيا الروحِ والمُقَل
(غازي القصيبي رحمه الله وهو من مواليد الهفوف)
هي الأحساء ياقلب المعنى
فأطلق من لحون العشق لحنا
وعلمنا لهوى والعشق يامن
شربت كؤوسه مثنى فمثنى
وخذنا في طريقك حيث نجم
يبوح ونجمة كالصبح وسنى
فقلت ومن تعير يداه كفي
يراعا من فؤاد الليل أحنا
فأهمس عند ريشته بسري
فتنشره لكم أدبا وفنا
وتعلن أن في الأحساء قلبا
لها وبها تأوه أو تغنى
أفاق وقد تفجّر فيه فيض
يفتق عشقه غصنا فغصنا
فأصبح بين ثانية وأخرى
يدق لمن يحب بألف معنى
سقاك الله يا أحساء عما
سقيت قلوبنا فضلاً ومنى
فرب سويعة في شط نهر
وخضر النخل عن يسر ويمنى
أنآلت كل نفس ماتشتهيه
وأعطت كل قلب ماتمنى
هي الأحساء ياقلب المعنى
فأطلق من لحون العشق لحنا
نروح إذا نروح وأنتِ هجس
إذا ما عجّ بالأشواق عدنا
فإن يفنى فدونك كل عمر
وحبك في الجوارح ليس يفنى
(ناجي الحرز)
(مشروع جبل القارة يعيد الهوية التاريخية لجزيرة العرب)
(تجري هذه الأيام الترتيبات النهائية لإكمال المشروع السياحي في جبل القارة والذي سيكون من المعالم السياحية الكبيرة في المحافظة بعد اكتماله.وأكد الرئيس التنفيذي لشركة الأحساء للسياحة وهي المنفذة للمشروع د. عبداللطيف العفالق أن (جبل القارة) مَعْلَمٌ طبيعي مرتبط ارتباطاً وثيقاً بتاريخ الأرض، ويُصَنّف منذ القدم من عجائب الدنيا، وكان يُسمّى بجبل دلمون، مفيداً بأن المشروع يمثل استعادة الهوية التاريخية لجزيرة العرب، ويجمع بين التاريخ الطبيعي للأرض ممثلاً في الجبل ومغاراته، وبين تاريخ الكون والإنسان، مبيناً أن المشروع يبرز إنسان هذه الأرض وعلاقته بالحضارة والتطور منذ بدء الخليقة وحتى عصرنا الحاضر.
وأوضح العفالق أن المشروع المسمى "أرض الحضارات" استثمار قامت به الشركة من أمانة الأحساء بهدف تطوير المغارة الرئيسية للجبل وإنشاء منطقة الخدمات المحيطة بها، وجعلها وجهة سياحية إقليمية كمرحلة أولى، ويصنف أرض الحضارات كمشروع ثقافي وتاريخي وسياحي وتعليمي وتفاعلي، وأفاد بأن الشركة قامت بعمل دراسات مكثفة وجدت أن هناك جانبين هامين يحتاجان لإبراز وهما التاريخي، والثقافي، مؤكداً أن الأحساء تختزن تراكماً حضاريآً وتاريخيآً وثقافياً كغيرها من مناطق المملكة لذلك تبنّت الشركة دمج تاريخ الإنسان مع استثمار التاريخ الطبيعي الممثل في التكوين الجيولوجي للجبل الذي نتج عنه إخراج منتج مرتبط بهوية الأحساء.
من جانب آخر يستعيد مشروع أرض الحضارات الجغرافيا القديمة للمنطقة بأنهارها وتضاريسها، كما يستعيد تاريخها والحضارات التي نشأت فيها والتي هاجرت منها مُقدماً للسائح كل التراكم الحضاري العظيم لهذه الأرض، ويؤكد المشروع أن المملكة هي مهد الحضارات وأنها ضاربة في عمق التاريخ لا كما يعتقد البعض أن حضاراتنا مرتبطة بالنفط.)
(جريدة الرياض الأحساء - سالم السبيعي )
والأحساء عريقة في الحضارة وعمرها طويل، وكانت مقصداً لطالبي الرزق وللعلاج أيضاً : فقد كانت متطورة حين كان الطب في نجد متأخراً، ولعلنا نذكر الأبيات الرئعة:
السيل يا سدرة الغرمول يسقيكْ
من مزنةٍ هلّت الما عقربيِّه
يا طول ما جيت ساري في حراويك
عجلٍ واخاف القمر يظهر عليِّه
نطّيت انا الدابّ وانيابه مشاويك
عجل والله وقاني من اسباب المنيِّه
يا رِجْل لو هو مصيبك وين اداويك؟
ودواك يمّ (الحسا) صعبٍ عليِّه
والأحساء غنية بالماء والتمر والطيبة والعلم والأدب والشعر والطرب والسمر، فمن شعرائها علي بن مقرب وسليم بن عبدالحي ومحمد بن مسلم وسليمان العفالق وعبدالرحمن العودة، وغيرهم كثير، ومن مطربيها الشعبين المحبوبن عيسى الأحسائي رحمه الله ، الذي قال الشاعر يرثيه:
ياهل الحسا وين الذي يطرب الناسْ
وين الطرب والفن وايام عيسى؟!
كلن معه نغمه وعوده ومرواس
ياحيلة الله ياجماهير عيسى
خلّى غصون القلب صرعى ويبّاسْ
كلن نشدني ياعلي وين عيسى ؟!
اهل الطرب غيره على العين والراس
مشكور بالي مايبي غير عيسى
مشكور لاتامن مع البيت جلاس
كلن يبي صوره مع اطفال عيسى
ويذكرونهم كل بكره ومقلاس
ويهلو العبرات من شان عيسى..
ومن شعر سليم بن عبدالحي المتوفي (١٣٢٠) يشتاق إلى موطنه الأحساء وفيه محبوبته :
ياهيه يالمندوب يالمشمل اللي
تبغي وطن شوقي عسى الرشد لك فالْ
قم يانديبي وارتحل بنت هملولِ
عمليّةٍ تقطع سراب اشهب اللال
سلام مفجوع شبابة مولي
مابه من اللحمة ثلاثين مثقال
وازكى تحية مغرم مستحلي
والفين ترحيب على ذيك الاطلال
١- يقصد بيت المتنبي (على قَلَقٍ كأنّ الرّيحَ تَحْتِي أُوَجّهُها جَنُوباً أوْ شَمَالاً)
نقلا عن الرياض