يخضع المستهلك حال اتخاذه قرارات الإنفاق على متطلباته المعيشية، تحت عديد من العوامل المختلفة، التي بناء عليها يتحدد إنفاقه أو ادخاره، ويتحكم في ذلك - على سبيل المثال - مستوى الدخل الشهري، الذي قد يتاح للبعض إمكانية زيادته من خلال قنوات مشروعة بالتأكيد، فيما قد لا تتاح هذه الفرصة لبعض الأفراد. ومن تلك العوامل أيضا ارتفاع أسعار السلع والخدمات "التضخم"، ولا تتجاوز حدود المستهلك هنا سوى قدرته على التكيف مع هذا العامل أو المتغير، وأن يبحث عن البدائل الممكنة أمامه، وفق قدراته، من حيث الدخل الذي يجنيه شهريا، إما بالبحث عن بدائل السلع أو الخدمات الأدنى سعرا، أو بخفض إنفاقه، أو حتى بالاستغناء تماما عن أي منهما، إذا كانت تدخل ضمن باب الإنفاق على الكماليات الممكن التوقف عنها لفترة من الزمن.
أما على مستوى العوامل الممكن للمستهلك أن يتحكم فيها، فيأتي في مقدمتها إقدامه على الاقتراض (استهلاكي، عقاري)، وموافقته من عدمها على حجم الاستقطاع الشهري المنتظم من دخله، إما لفترة قد تمتد إلى خمسة أعوام إذا كان قرضا استهلاكيا، أو لفترة أطول قد تمتد إلى 20 عاما أو أكثر إذا كان قرضا عقاريا، إضافة إلى حمله البطاقات الائتمانية التي تستقطع هي أيضا جزءا من دخله الشهري، ويشترك جميع ما تقدم ذكره في استقطاع جزء من الدخل الشهري للمستهلك، الذي سيؤدي بدوره إلى خفض الدخل المتاح للإنفاق، وكل هذا يدخل تحت سيطرة المستهلك قبل الإقدام على أي من تلك النوافذ الاقراضية.
يدخل تفكير المستهلك فيما تقدم ذكره ضمن دائرة التخطيط المالي للفرد، وعمله الدؤوب على ضبط وتنظيم أموره المالية المختلفة بناء على قدرة دخله، ووفقا لمتطلباته المعيشية والمتنوعة، ودون إغفال مفاجآت الحياة خارج الحسبان التي قد تطرأ على الفرد في المستقبل قريبا أو بعيدا، وهو الجانب الأصعب في حياة الأغلبية منا، أن يضع المرء ضوابط معينة لتوزيع دخله على مختلف متطلبات الإنفاق المرتبطة برتم الحياة، والالتزام العالي باستقطاع جزء من الدخل لأجل الادخار، ومن ثم استثماره في القنوات الأدنى مخاطرة والأعلى ربحية. كما تختلف درجة صعوبته حسب شريحة العمر، وحسب حجم الالتزامات الملقاة على كاهل الفرد، وبالتأكيد حسب مستوى الدخل الشهري وأي تدفقات تدخل عليه، حيث تنخفض صعوبتها كلما كان عمر الفرد أصغر، وكلما انخفض حجم الالتزامات المالية عن كاهله، وكلما ارتفع مستوى الدخل. والعكس صحيح، مع تقدم المرء في العمر، ومع ارتفاع حجم التزاماته وانخفاض مستوى دخله، وتزداد الصعوبة أكثر بحال أصبح المرء ملتزما بسداد مستحقات قروض من أي نوع كانت سواء تجاه أشخاص أو تجاه مؤسسات تمويل، وتبرز أهمية وجدوى هذه المنهجية المثالية لتدبير الأمور المالية لأي فرد، كلما أخضع نفسه لها في عمر مبكر من حياته الوظيفية، بما سيفتح له آفاقا وخيارات أوسع في مستقبله، وهو الأمر النادر حدوثه لأسباب كثيرة جدا، ومختلفة أيضا حسب الظروف الحياتية التي يعايشها الأفراد وأسرهم وواقعهم المادي.
على أن "وصفة" الموازنة أو التخطيط المالي تختلف بحسب اختلاف الأوضاع المعيشية والعمرية من فرد إلى آخر، إلا أنه يوجد بعض المحددات المشتركة بين الموازنات تلك، لعل من أهمها وأكثرها أولوية: (1) ألا يلزم الفرد نفسه بسداد استقطاع منتظم لأي نوع من أنواع القروض تتجاوز نسبته 40 في المائة كحد أقصى من دخله الشهري. (2) أن يضع في صميم تخطيطه المالي المقترح نسبة من دخله للادخار مهما كانت تلك النسبة متدنية في البداية. (3) بحال قرر الفرد استثمار مدخراته مهما كان حجمها، أن يستشير الجهات المرخصة نظاميا، والتعرف من خلالها على القنوات الاستثمارية الملائمة له ولأوضاعه المادية والمعيشية. أما الجانب الذي لا يدخل ضمن ما تقدم من أولويات، بل إنه يتقدمها جميعها على الإطلاق، ولن تجده في أدبيات التخطيط المالي المتعارف عليها، الذي لا بد أن يلزم المرء نفسه به بصورة منتظمة، مهما صغر حجمه أو كبر، هو المتمثل في إنفاق الصدقة على من يستحقها، قال رسول الله ﷺ: (مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ للَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ) رواه مسلم.
ختاما، كما أنه لا يجب أن يقسو الفرد بالتشديد المفضي إلى البخل على نفسه وأسرته، فلا يجوز أيضا أن يفرط في الإسراف والإنفاق بأكثر مما يستطيع، ولا بما سيؤدي به إلى التورط فيما لا ولن تحمد عقباه لاحقا. وأن ندرك الكثير من الفروقات بين الناس وأوضاعهم المعيشية التي قدرها لهم رب العباد، فلا يقارن المرء نفسه بمن هو أغنى منه أو أفقر منه، فيضع الأمور في نصابها المتوافق مع أوضاعه المالية والمعيشية الخاصة به دون غيره. وكم هو الفارق كبير بين شاب أو شابة بدأ خوض حياته الوظيفية وأسرته - بحمد الله - تقف على وضع مالي جيد، يمكنهم أن يقدموا له مزيدا من الدعم والعون على مواجهة حياته الجديدة، وآخر قد تكون أسرته في أمس الحاجة إلى أن يبدأ في دعمهم وتقديم يد العون لهم، والمساهمة في تحسين أوضاعهم المعيشية بقدر ما يستطيع! وقس على ذلك الكثير والكثير جدا من الاختلافات المعيشية بين الأفراد، التي تتدخل بدرجة كبيرة جدا في تحديد النموذج الأمثل لكل فرد حسب أوضاعه الخاصة به منفردا.
نقلا عن الاقتصادية