قد تكون الأزمات متلازمة تصيب العالم في كل عقد مرة أو أكثر منذ عقود ليست بالبعيدة وفي القرن الحالي عاش العالم أحداثاً جسيمة رغم أننا مازلنا في الربع الأول من هذا القرن بداية من أحداث سبتمبر 2001 إلى احتلال العراق وأفغانستان بعدها بعامين ثم نشوب الأزمة المالية العالمية عام 2008 لتأتي بعدها الفوضى التي ضربت دولاً عديدة بالشرق الأوسط ومازالت مستمرة وتسببت بكوارث اقتصادية وإنسانية ضخمة لتلك الدول لنصل بعدها لأزمة غير مسبوقة بتداعياتها وهي جائحة كورونا التي مازال علاج آثارها مستمراً وتكاليفها تخطت 30 تريليون دولار أميركي ولا يعرف متى ستنتهي كجائحة وإن كانت البوادر قد ظهرت بعودة العالم للحياة الطبيعية تدريجياً والتعايش مع الفيروس بعد أن أنتجت لمواجهته لقاحات وعلاجات عديدة لكن ما إن بدأ العالم يتنفس الصعداء قليلاً من جائحة كورونا حتى ظهرت أزمة الخلاف الروسي الأوكراني التي ارتفع التصعيد فيها لمستويات تنذر بحرب قد تكون بداية لنشوب صراع طويل الأمد في أوروبا إذا لم يتم احتواؤها ومعالجتها دبلوماسياً.
فالعالم لا يمكن له تحمل المزيد منها ورغم وجود منظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي والكثير من المنظمات والهيئات والمؤتمرات الدورية الدولية التي تتيح نقاش كافة القضايا والأزمات بالعالم لكن الحلول دائماً لا تأتي وفق سياق هذه الفرص التي تتاح للحوار عبر منظمات دولية أو بما يسهم بالاستقرار الأمني والاقتصادي للعالم فصراع القوى العظمى لا يتوقف ومسرحه ليس أراضيهم بل مناطق جغرافية أخرى ولكن بعد أن ارتفعت ديون دول العالم لأكثر من 250 بالمائة قياساً بحجم الناتج الإجمالي العالمي ومع استهلاك الكثير من الحلول والسياسات لمواجهة الأزمات الاقتصادية والمالية بداية من أزمة الرهون العقارية 2008 إلى جائحة كورونا فإن قدرة العالم على مواجهة أزمة اقتصادية جديدة تبدو ضئيلة تحديداً من الدول الكبرى فلا بد أن تترك آثاراً طويلة الأمد فأزمة روسيا وأوكرانيا إذا تطورت لنزاع عسكري فإن العالم مهدد بتأثيرات بالغة حيث سترتفع أسعار الطاقة لمستويات عالية وبمدة قصيرة جداً لا تبدو اقتصادات الدول المستهلكة تحديداً في أوروبا قادرة على تحملها دون أن يكون هناك اتباع لسياسات نقدية ومالية متشددة ستؤثر على نمو اقتصادياتهم فروسيا تمد أوروبا بحوالي 40 بالمائة من الغاز الذي يستهلك في صناعاتها وكذلك توليد الطاقة مما سيرفع من مستويات التضخم لأرقام قياسية جديدة ولن تكون أسعار النفط بعيدة عن الارتفاع وستتجاوز حاجز 100 دولار مما يضيف ضغوطاً أكثر على قطاع النقل والشحن الدولي فارتفاع أسعار الطاقة قد تهضمه الاقتصادات المستهلكة عندما يكون متدرجاً ومواكباً لزيادة الطلب المرافق لنمو اقتصادي لكن القفزات السريعة نتيجة أزمات سياسية أو كوارث طبيعية تكون عادة مربكة للدول المستهلكة والمنتجة التي هي أيضاً تواجه صعوبة بزيادة إنتاجها بوتيرة سريعة إذا كان لديها طاقات احتياطية إنتاجية أساساً خصوصاً أن العالم شهد تراجعاً باستثمارات الطاقة بالوقود الأحفوري منذ سنوات من دول أوروبا على وجه الخصوص وكذلك الدول التي تبنت سياسات متعجلة للتحول للطاقات البديلة والنظيفة.
فالتضخم العالمي الذي يقارب 5 بالمائة حالياً علاجه أصبح مكلفاً ويحتاج لتوازن دقيق من البنوك المركزية الكبرى حتى تحافظ على نمو دولها اقتصادياً وكبح جماح التضخم بنفس الوقت فإذا انتقلت أزمة أوكرانيا إلى تصعيد عسكري فإن علاج التضخم سيكون على حساب النمو الاقتصادي الذي قد يتبدد ويتحول لركود فالتصعيد العسكري لن يؤثر فقط على أسعار الطاقة بل سينتقل لتعقيد مشكلة سلاسل الإمداد الحالية ويطيل أمدها وهي التي تعد العامل الرئيسي حالياً برفع معدلات التضخم لمستويات لم تشاهدها بعض الدول مثل أميركا منذ حوالي 38 عاماً كما أن العالم قد يشهد تأثيراً في إمدادات الحبوب حيث إن روسيا وأوكرانيا من أكبر المنتجين والمصدرين لها أي إن الأمن الغذائي في العديد من الدول التي لا تملك مخزونات كافية لمدة طويلة قد يشهد ضغوطاً في توفير احتياجاتها مستقبلاً يضاف لذلك أن إطالة أمد النزاع والدخول في حرب استنزاف سيكون له أثر بارتفاع مديونية أغلب الدول ذات العلاقة بالأزمة والتي قد ترتفع لديها ميزانيات جيوشها خصوصاً دول حلف الناتو التي ستجد نفسها طرفاً بالنزاع بأي شكل كان فالمرحلة القادمة تعد مفصلية لمستقبل أوروبا وكذلك لتغير موازين القوى الدولية فبقدر ما هو أكبر اختبار لحلف الناتو منذ تأسيسه إلا أنه أيضاً أدق مرحلة من تاريخ روسيا بعد تفكك الاتحاد السوفييتي.
لن يتحمل العالم تبعات أي أزمات كبرى جديدة فالعالم غارق بالأزمات وجميعها ستكون تبعاتها المهمة في الشق الاقتصادي سلباً أو إيجاباً حيث ستظهر مراكز قوى جديدة وتتقلص أخرى إلا أن ما يحتاجه العالم اليوم الميل لحل أزماته بالتعاون والحوار والقبول بأن تصان مصالح الجميع فمع تعدد الأزمات بأوقات متقاربة سيصعب حلها وتحمل تبعاتها وستصل تداعياتها لمواجهات عسكرية كبرى لا يمكن تقدير نتائجها التي ستكون مدمرة.
نقلا عن الجزيرة