رغم ما بدت عليه أوضاع الاقتصاد العالمي خلال 2021، من تراجع هامشي لتداعيات الجائحة العالمية لكوفيد - 19، سمح لكثير من الاقتصادات أن تتحرك صعودا على طريق التعافي، إلا أنه ظل تعافيا تغلب عليه الهشاشة أكثر من أي عامل آخر، وقف خلفه بالدرجة الأولى سياسات التيسير الكمي التي انتهجتها البنوك المركزية الكبرى عالميا، وما اقترن معها من موجات تضخمية غير مسبوقة في منظور أكثر من أربعة عقود زمنية مضت، وهو ما دفع إلى سيطرة التردد على أغلب البنوك المركزية عالميا تجاه انسحابها من سياسات التيسير الكمي، مع التأكيد على أن التضخم عالميا قد أسهم تصاعده في زيادة الطلب العالمي على السلع الأساسية الذي قابله نقص في المعروض منها، ما أسهم بدوره في الارتفاع المطرد في أسعار تلك السلع الأولية ومواد الخام، كما أسهم في ارتفاع التضخم عالميا تصاعد القيود التصديرية المرتبطة بالاحترازات الوقائية وارتفاع الرسوم الجمركية، وارتفاع تكاليف التوزيع النهائية كتكاليف النقل والشحن الجوي والبري.
المؤكد أن طريق تعافي الاقتصاد العالمي لم يكن معبدا تماما، إلا أنه كان أقل وعورة مما كان عليه خلال العام الماضي الذي شهد تفشي الجائحة العالمية، ما دعا صندوق النقد الدولي إلى توقع نمو الاقتصاد العالمي بنهاية العام الجاري بنحو 5.9 في المائة، كأسرع وتيرة نمو خلال ثمانية أعوام مضت، وأن يتباطأ ذلك المعدل إلى 4.9 في المائة خلال العام المقبل 2022، وينمو الاقتصاد السعودي خلال العام الجاري بمعدل 2.8 في المائة، ويتسارع النمو الحقيقي خلال العام المقبل بمعدل أعلى يبلغ 4.8 في المائة، واقتران تلك المعدلات بتراجع متئد في معدل التضخم في أغلب الاقتصادات، ويكون ملموسا بصورة أكبر من بعد منتصف العام المقبل.
لقد أظهر الاقتصاد الوطني أداء مرضيا طوال العام الجاري، اقترن بتراجع معدل البطالة إلى 11.3 في المائة، وارتفاع معدلات التوطين في القطاع الخاص إلى 23.6 في المائة، إضافة إلى خفضه للعجز المالي في الميزانية العامة بنسبة 40 في المائة إلى 85 مليار ريال، مقارنة بما كان مقدرا في الموازنة السابقة عند 141 مليار ريال، إضافة إلى تحسن أداء مؤشرات الاستثمار الخاص الناتج عن استعادة النشاط الاقتصادي لقدر جيد من التعافي بشكل ملموس، تم تأكيده من الأداء الجيد لمؤشر مديري المشتريات PMI، الذي يعبر عن مناخ الأعمال للاقتصاد غير النفطي بوصوله إلى 57.7 نقطة مع نهاية تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، وهو ما يعني تمكنه من النمو سنويا بنسبة 13.1 في المائة، وبما يؤكد حالة التحسن التي بدأ القطاع الخاص غير النفطي ينتقل إليها تدريجيا، وغيرها من المؤشرات الإيجابية الأخرى المرتبطة بعديد من مؤشرات الأداء الكلي للاقتصاد الوطني على مستوى التجارة الخارجية، وأداء الأسواق الرأسمالية المحلية، والاستقرار المتين الذي أبداه القطاع التمويلي محليا.
ارتسمت نظرة المملكة تجاه العام المقبل بإطار متحفظ، خاصة في ظل عدم الانكشاف الكافي للضبابية التي ما زال الاقتصاد العالمي يعيش تحت وطأتها، وتحت الضغوط المتجددة للجائحة العالمية، خاصة مع الظهور الأخير لأوميكرون المتجدد، وما تسبب فيه حتى تاريخه من تقلبات للأسواق العالمية. كما يراهن الاقتصاد الوطني على تصاعد دور نتائج الإصلاحات الهيكلية التي بدأها بصورة جادة منذ منتصف 2016، وما زال ماضيا في استكمالها عاما بعد عام، وتعهده بالمحافظة على إتمامها بحلول 2030، وهي الإصلاحات التي أسهمت كثيرا في صلابة مواجهته تجاه تداعيات تفشي الجائحة العالمية لكوفيد - 19، وأسهمت أيضا في تحقق كثير من النتائج الإيجابية التي سجلها خلال العام الجاري، وأنها ستسهم أيضا في مساندة طموحاته نحو تحقيق مزيد من النمو المستدام مستقبلا، وسيتسمر عملها وفق منظومة العمل المتكاملة بين الأجهزة الحكومية والقطاع الخاص، وصولا إلى التحقيق الكامل لمستهدفات رؤية المملكة 2030.
يمكن إيجاز السياسات الاقتصادية الكلية، التي ستنتجها المملكة خلال العام المقبل من خلال الخطوط العريضة التالية، بالعمل على استمرار جهودها بالاعتماد على سياستها النفطية، القائمة على دعم اتفاقية "أوبك+" لإنتاج النفط، وعودة مستويات إنتاجها المتدرجة، لأجل دعم استقرار الأسعار العالمية للنفط، ولتحقيق التوازن بين الطلب والعرض، والعمل المستمر على طريق مواجهة أي مخاطر محتملة على جانب إيراداتها النفطية. وإدراكا منها لما يواجه الاقتصاد الوطني لكثير من التحديات التنموية المتعددة، فستتجه الحكومة إلى تبني مزيد من سياسات تحفيز التنوع الاقتصادي بمعدلات مرتفعة، ومواصلة الإصلاحات الهيكلية في سوق العمل، والعمل بمزيد من الكفاءة على رفع معدلات الإنتاجية في الاقتصاد الوطني، بما ينعكس إيجابيا على معدلات نمو الناتج المحلي غير النفطي.
تدرك المملكة أن إمكانية حدوث تحسن أسرع لحالة الاقتصاد العالمي، سينعكس بدوره على زيادة الطلب العالمي على النفط، الذي سينعكس إيجابيا على زيادة أسعار النفط، الذي سيسهم نهاية الأمر في زيادة الناتج المحلي الإجمالي عموما، وسيسهم في ارتفاع الإيرادات النفطية خصوصا، الذي سيكون بكل تأكيد إيجابيا على الميزانية العامة. كما سيشكل استمرار التحسن الراهن على السياحة خلال العام الجاري، وتصاعده في الأجل المتوسط، عاملا إيجابيا يسجل لمصلحة معدلات الاستهلاك والأنشطة الإنتاجية والخدمية الأخرى، إضافة إلى تأثيره الإيجابي في ميزان المدفوعات، وارتباط كل النتائج الإيجابية المتوقعة على إيجاد مزيد من فرص الاستثمار والعمل على حد سواء، وما يحمله كل ذلك من آفاق جيدة لمستقبل الاقتصاد الوطني - بمشيئة الله تعالى.
نقلا عن الاقتصادية