الأزمة التي فرضها فايروس كورونا على العالم صحياً واقتصادياً كانت بمنزلة المحاسب العظيم الذي كشف لكل دولة مدى حصانتها ضد الأزمات الكبرى وماذا تحتاج من تطوير ومعالجات للثغرات وبواطن الضعف التي كشفتها هذه الأزمة، إضافة لاختبار مدى نجاح خططها الإستراتيجية لتطوير وتأمين استدامة الاقتصاد، ففي عام 2020 الذي شهد اشتعال الأزمة كانت الجهود منصبَّة على المواجهة الصحية للوباء والحد من تفشيه والعمل على إيجاد العلاج الفعال ضد الفايروس، إضافة لمبادرات تحمي الاقتصادات من السلبيات التي تسبب بها الإغلاق الكبير الذي جاء من ضمن الاحترازات الصحية. وقد بُذلت جهود كبيرة وغير مسبوقة عالمياً بلغت تكلفتها آلاف المليارات من الدولارات. وفي الوقت الذي بدأ العالم يحتفل بنجاح جهوده باكتشاف اللقاحات التي تعد السلاح الأول لمكافحة انتشار الوباء إضافة لعودة النمو الجامح للاقتصاد العالمي بدأت تظهر أخطاء إستراتيجية لدى الدول الصناعية الكبرى في توفير الطاقة المستدامة لمجتمعاتها، حيث عانى بعضها من انقطاعات بالكهرباء، إضافة إلى ارتفاع كبير بأسعارها في أوروبا تحديداً.
فبحسب ما يصدر من تقارير وآراء لمختصين اقتصاديين أو بمجال الطاقة أجمع الكثير منهم أن دولهم ذات الاقتصادات المتقدمة الكبرى ارتكبت أخطاء في إستراتيجية توفير الطاقة من خلال مزيج غير متجانس، حيث هرول الكثير منهم نحو الطاقة المتجددة من الرياح والطاقة الشمسية بنسب أعلى مما كان يجب أن تشغله هذه الأنواع من الطاقة نظراً لانقطاعها وتذبب إنتاجها، كونها مرتبطة بعوامل المناخ التي لا يمكن التحكم بها، فإذا انخفضت أو توقفت الرياح أو لم تكن الأجواء مشمسة فإن إنتاج الكهرباء سينخفض. هذا، إضافة إلى صعوبات تخزين الطاقة المتجددة وحجم الاستثمارات الضخم الذي تتطلبه المقدرة بنحو 27 تريليون دولار لتحقيق أهداف اتفاقية باريس للمناخ. وكشفت أزمة الطاقة التي ضربت تلك الدول أن الوقود الأحفوري هو الكفيل بتحقيق الأمان بإنتاج طاقة مستدامة، وأن الضغوط التي تمارس من قبل تلك الدول على شركاتها النفطية لتقليل أو الابتعاد عن إنتاج الوقود الأحفوري أسست لأزمة طاقة كبرى قادمة في العالم خلال السنوات العشر القادمة، إضافة إلى إصدار أنظمة وجهت التمويل المقدم من البنوك للطاقة الخضراء وغيرها من التشريعات التي قللت من زيادة اكتشافات الطاقات الأحفورية عالمياً.
ومع تفاقم أزمة الطاقة عادت هذه الدول سريعاً لزيادة الطلب على النفط والغاز والفحم الحجري لإنتاج الطاقة الكهربائية مع انخفاض إنتاجها من الطاقة المتجددة نظراً للأحوال الجوية غير المواتية لكي تنتج الطاقة منها بالحجم الذي صممت على أساسه المشاريع الضخمة في أوروبا وغيرها من كبار المستهلكين. ولعل التحذير الذي أطلقه سمو وزير الطاقة السعودي الأمير عبدالعزيز بن سلمان قبل أيام حول خطورة تراجع الاستثمارات بالنفط والغاز عالمياً سيؤدي لأزمة طاقة، حيث ذكر أن 65 بالمائة من الاستثمارات الحالية هي فقط للمحافظة على حجم الإنتاج الحالي، وفعلياً فقد شهد العالم تراجعاً كبيراً باستثمارات النفط والغاز وصلت إلى 309 مليار دولار في العام الماضي، في الوقت الذي يحتاج فيه العالم إلى استثمارات قدرت عند 525 مليار دولار سنوياً حتى العام 2030، وذلك لكي يواكب العرض نمو الطلب. فالتحذير الذي أطلقه وزير الطاقة له أهمية بالغة كون المملكة من أكبر منتجي النفط والغاز بالعالم وتملك احتياطيات ضخمة منها، إضافة إلى إنها الدولة الأكبر من حيث الاحتياطيات الإنتاجية غير المستغلة والتي يتم اللجوء لها عند تأثر الإمدادات عالمياً، ولذلك تعد الدولة التي تمثل صمام الأمان لإمدادات الطاقة الموثوقة عالمياً. فالمملكة تتميز بإستراتيجيتها الاستثمارية البعيدة المدى بقطاع النفط والغاز ولا تنظر للتقلبات السعرية القصيرة الأجل، فالعالم من دون الطاقة الأحفورية لن يستقر اقتصاده أو تنميته، لأن البدائل ليست بالكفاءة نفسها. فإذا بقي هذا التراجع في الاستثمارات مستمراً فإن النقص بالعرض قد يصل إلى مستوى غير مسبوق قد يفوق 20 بالمائة تراجعاً عن حجم الطلب بحسب بعض التقديرات، فبكم سيكون سعر برميل النفط في حينها وما هي التداعيات على الاقتصاد العالمي من حيث التضخم والاضطرابات الاقتصادية، ولذلك ذهبت بعض التوقعات المتماشية مع تحذيرات تراجع الاستثمار بالطاقة الأحفورية لأسعار تفوق 120 دولارًا، ووصل بعضها إلى 180 دولارًا، فيما فاجأت شركة لوك اويل الروسية العالم بتوقع وصول سعر البرميل إلى 380 دولارًا وفق شروط واحتمالات حددتها بتقريرها قبل نحو أسبوعين.
زيادة الاستكشافات والطاقة الإنتاجية من النفط والغاز مسؤولية عالمية لا يمكن لدولة أو حتى لاوبك + أن تلبي كل الطلب لوحدها مستقبلاً، فقد ينظر البعض إلى أن المتتجين من دول أوبك + التحالف القوي الذي حمى صناعة النفط والاقتصاد العالمي بأنهم مستفيدون من ارتفاع كبير في أسعار النفط، لكن في الحقيقة أن هدفهم هو عكس تلك التوقعات بضرورة توفير ضخ استثماري كافٍ لتحقيق التوازن في السوق للحفاظ على تنمية اقتصادية عالمية مستدامة ومنع التقلبات الحادة فيه والمساهمة باستقرار الدول المستهلكة اقتصادياً واجتماعياً، لأن ذلك يحقق المصلحة للمنتج والمستهلك، فتمثيل الوقود الأحفوري بمزيج الطاقة العالمية سيبقى كبيراً حتى نهاية القرن الحالي، وهو ما يتطلب عودة واقعية من المستهلكين الكبار لإعادة صياغة إستراتيجياتهم بإمدادات الطاقة وإلا فإن الكرة في ملعبهم وسيكون الضرر المتحصل كبيراً من تراجع استكشفات الطاقة الأحفورية عالمياً مما قد يؤدي لأزمة طاقة مستقبلاً من صنع يدهم.
نقلا عن الجزيرة