التوازن الاقتصادي هو الكنز الذي يبحث عنه الاقتصاديون والسياسيون على حد سواء، توازن اقتصادي يضمن رضا جميع الأطراف المستهلكين والمنتجين، ولقد مرت قرون قبل أن يكتشف العالم أن هذا التوازن يتحقق على مستويات: على مستوى الاقتصاد الكلي للدولة، ومستوى المؤسسة الواحدة، فقد يحدث التوازن على مستوى الاقتصاد ككل بمعنى أن المنتجين والمستهلكين متفقون على هذه المستويات من الإنتاج والأسعار والجميع يشعر بسعادة والتوظيف عند أعلى مستوياته، لكن على مستوى المؤسسة قد يكون الوضع مختلفا نظرا للمنافسة، وهذه المفاهيم معروفة لكل ذي صلة بالاقتصاد، لهذا ليست موضوع المقال، بل الأهم عندي هو أن التوازن عند مستوى الاقتصاد الكلي أو العالمي قد يكون مقلقا، بمعنى أن الجميع مقتنع بالحالة الراهنة، لكن الجميع غير متفق على ماهية المستقبل وكل له شأنه.
هنا يظهر التوازن الهش الذي لا يلبث أن يختل نحو اضطرابات في نواح عدة، من بينها مستويات الأجور ومعدلات التوظيف ثم الركود وهكذا في رحلة من المشكلات الاقتصادية والسياسية حتى يجد الاقتصاد توازنا جديدا قد يكون مكلفا في بعض الأحيان، مكلفا لدرجة ارتباك حاد في المشهد السياسي، وفي أحيان نادرة يتمثل الاضطراب في شكل مجاعة قاتلة كالتي أصابت الصين في فترات سابقة، وكمثال على مشهد التوازن الهش سأقدم نموذجا حيا لإحدى الدول دون تحديد أسماء، فالعبرة بالموقف لا بالأسماء هنا. فالحكومة في هذه الدولة تواجه تحديات سياسة واقتصادية متعارضة، أولها ضخامة الدين العام، والدائنون الدوليون يمارسون ضغوطا على الحكومة من أجل هيكلة الميزانية العامة وفقا لضمانات تسديد الدين كأولوية ومن ذلك معالجة العجز بالتقشف وتقليص الرواتب.
وعادة يكون صندوق النقد الدولي من أشد هؤلاء الدائنين وأكثرهم شراسة، وهو يرتكز على المفاهيم النيوليبرالية في صناعة القرار الاقتصادي، وفي الوقت نفسه حين تجتاح البلاد عاصفة من الصراعات السياسية بين أحزاب سياسية تتقاتل سرا وعلنا للفوز بالسلطة، وهذه الأحزاب السياسية في سعيها للوصول تقدم وعودا غير منطقية بشأن زيادة الأجور وتخفيض الضريبة وتقديم خدمات اجتماعية كبيرة لا توفرها ميزانية الدولة فعليا، وهي في هذا توظف كل ما تستطيع من أجل الضغط على الحكومة للإقرار بالفشل وتقديم الاستقالة، في هذا الوضع المضطرب ومع اقتراب إعلان الميزانية في عديد من الدول تكاد تسمع الأنين في جميع أنحاء العالم، أنين التوازن الهش.
ليست المشكلة فقط في الدول التي تواجه اضطرابات سياسية كمثل ما أشرت إليه بل المشكلة الآن في العالم الذي لا يستطيع تحديد مساراته بشكل دقيق، فالتضخم مقبل بسرعة القطار الياباني الجديد، ولن يوقفه شيء، فأسعار الطاقة في ارتفاع لأسباب عدة يختلف العالم حولها ولا قاعدة للحوار، وهي بذاتها تقود لارتفاع أسعار النقل والمنتجات البتروكيماوية التي تعد لقيما في عديد من المنتجات، وبالتالي سترتفع الأسعار تباعا، ومع مشكلات الشحن العالمية إضافة إلى الجفاف والحرائق التي أتلفت محاصيل كثيرة فإن أسعار التأمين على البضائع سترتفع لارتفاع قيمة البضائع، وهذا يضيف أعباء أكثر، كل هذا أمام ضخامة السيولة التي في البنوك العالمية، ويقابلها ارتفاع ضخم في الدين العام والخاص على حد سواء، ما يجعل أي فكرة لرفع الفائدة محض تهور كبير، ولهذا فإن الفيدرالي الأمريكي قد صرح بشكل واضح أنه غير مستعجل بشأن رفع سعر الفائدة، خاصة أن لديه أدوات أخرى مثل تقليص شراء السندات، ما يعني تخفيضا غير مباشر لمستويات السيولة، ففي ذروة انتشار كورونا ومع وصول معدلات الفائدة لمستويات قياسية لم يكن أمام الولايات المتحدة من حل أفضل من توسيع نطاق شراء السندات حتى تمكن البنوك والمؤسسات الاقتصادية من إيجاد سيولة فورية وما يحدث الآن هو العكس تماما من حيث تقليص شراء السندات للحد من مستويات السيولة، وهذا الإجراء يأتي لتجنب تعديل سعر الفائدة الذي يعمل الاحتياطي الفيدرالي على تأخير هذا القرار بكل ما يستطيع من أدوات.
هذا هو المشهد تماما، هناك قلق متصاعد من الدين العام العالمي وعلى كل المستويات وقلق من فشل حكومات كثيرة حول العالم فيما لو قامت الحكومة الأمريكية بتعديل سعر الفائدة قبل أن تتمكن هذه الدول من معالجة أزماتها، وهنا أسعار ترتفع مع حاجة ماسة إلى السيولة التي تبقي الأسعار مرتفعة والاضطرابات قريبة، والجميع يتأهب لقرارات تبدو متناقضة في المستقبل، وفي ظل توازن بكل هذه الهشاشة فإن الحل الآن هو كما فعل الأمريكيون، الانتظار دون وعود قاطعة أو قرارات مستعجلة، العالم بحاجة إلى بعض الهدوء الآن.
نقلا عن الاقتصادية