قبل أن تدخل الكهرباء إلى قرى المملكة، كان أهل القرى إذا سافروا إلى الرياض أو جدة أو الدمام، وغيرها من المدن الكبار التي تنعمت بالكهرباء، يصابون بالتعجب والذهول! ويعتبرون الكهرباء شيئاً من الأسحار يخطف العقول والأبصار!
وقد سمعت قبل ربع قرن من رجل مسن ذلك الوقت أنه قال:.. الله يرحم أبوي .. رحنا للرياض وبقي هو في القرية التي يحبها وتحبه، القرية التي ولد فيها ولم يغادرها قط إلاّ إلى مكة المكرمة حاجاً وهو شاب على المطايا..كنا نرجو من الوالد - غفر الله له - ان يأتي إلى الرياض ولو للزيارة، وكان يؤجل ويقول: أنتم تزورونني كل شهر.. وأنا أحب ديرتي .. فيها ربعي .. وبيتي الذي تعودته عليه .. فلماذا أسافر؟!
كانت قريتنا لم تصلها الكهرباء بعد، وأكثر سكانها لم يروا الكهرباء قط،كما ان ماء الحكومة كان لم يصل أيضاً، فكانوا يروون من بئر حلوة الماء في القرية، ويضعونه في( القراوة) التي هي عبارة عن خزانات ماء صغيرة مقورة من الحجر المنحوت، ويعتبرون ذلك نعمة سابغة، ويشكرون الله صباح مساء، وينامون بعد صلاة العشاء في السطوح يتأملون وميض النجوم في سماء صافية تعكس ملايين النجوم لأن انعدام الكهرباء جعل السماء معتمة سوداء، تتلألأ فيها عقود النجوم في أجمل منظر رأيته في حياتي، ولا يمكن لأي إنسان ان يراه إلاّ أخذته الرهبة والاعجاب، وسبح باسم الخالق العظيم .. وأضاف الشيخ الكبير وهو يتنهد شوقاً لذلك المنظر: هذا في الصيف .. النوم في السطوح المكشوفة.. حيث تتلحف السماء ونسمع همس النجوم .. أما في الشتاء فإننا ننام في (صنعّة) دافئة تجمع اخواني الذين ماتوا ولم يبق إلاّ أنا أترحم على والدي واخواتي بعد كل صلاة.. وأحن إلى نومة السطوح والنسيم الشحيح في شدة الصيف ووميض النجوم يأخذ القلوب .. كانت البيوت مبنية من الطين ومسقوفة بالخشب والجريد، والأبواب من جذوع النخل.. كل شيء من البيئة .. وينسجم معها.. كانت بيوت الطين أقل حرارة في الصيف من بيوتنا المسلحة بكثير.. وأقل برودة في الشتاء.. وكانت (السواري) تحمل السقوف ونراها ظاهرة في المصابيح إما مبنية من الحجر المتراكب .. أو من جذوع الأشجار والنخيل .. حسب القدرة والتساهيل .. والذين بنوا تلك البيوت هم أهل القرية.. لا يوجد أجنبي واحد..ثم ضحك الشيخ الذي جاوز الثمانين وقال: الله المستعان كنا نعتبر أي زائر للقرية أو عابر (أجنبي) وهو من بلادنا .. أما الأجانب من البلاد الأخرى فلم نرهم قط ولا نعرف أشكالهم ولم يخطر في بالنا - ولا في الخيال - أنه سيأتي يوم يملؤون فيه المدن والقرى من كل جنس وجنسية ولون وفي كل مهنة حتى رعي الابل والأغنام .. سبحان مغير الأحوال!
وشرد الشيخ يفكر مذهولاً في هذا التغير الاجتماعي الكبير السريع ثم قال: حتى أنا واخواني في بيت من الطين في الرياض.. وبالاجار بعد.. لكن فيه ماء وكهرباء ومراوح.. وين؟! نعتبر أنفسنا في جنة الدنيا.. لهذا حين زرنا القرية ترجينا الوالد - الله يرحمه - أن يذهب معنا للرياض ويرى الرياض.. ان يسافر! كانت المسافة بين قريتنا والرياض مئة وخمسين كيلو فقط ولكنها تعتبر عند الوالد سفراً مع ان السيارات تقطعها في ثلاث ساعات فلم يكن الطريق أسفلتا.. بل ترابي يشق بعض أطراف النفود ونخاف من التغاريز.. المهم ألححنا على الوالد فوافق على شرط ان يعود بعد أسبوع بالكثير.. ركب معنا في (الحمالي) وهو سيارة كبيرة جداً لها صندوق واسع تصل مساحته المربعة إلى عشرة أمتار طول الصندوق حول ستة أمتار وعرضه متر ونصف تقريباً.. وفي هذا الصندوق يوضع العفش من مختلف الأشكال وياله من عفش متواضع يرمى أحسن منه الآن في الشارع وفضع مطارح مكان جلوسنا في صندوق السيارة (الحمالي) والمسيجة بألواح خشب بين كل خشبة والثانية دون من نصف متر، نرى من خلال الخلول الطريق والرمال والأشجار أما السماء فهي فوقنا مباشرة فالصندوق بلا سقف.. والحمالي سمي بهذا الاسم لأنه قوي كبير يحمل الرجال والأثقال ويعبر الطرق الوعرة والرمال ويحن في الرمل حنين الابل إذا عشق له (الدريولي) فيتمايل بنا فوق أمواج الرمال ذات اليمين وذات الشمال ونحن سعداء بصوته الشجي وتمايله العجيب ونفخر بقوته في مخر الرمل.. المهم جاء الوالد الله يرحمه للرياض ودخل البيت وضغطنا الفيش فولعت اللمبات وهو ينظر بدهشة بالغة! أول مرة يشوف الكهرب!.. وأخذناه إلى حنفيات الماء وفتحاها فصب الماء فزاد عجبه واعجابه! وولعنا (الدافور) حتى نسوي الشاي فأصابه الاستغراب.. لم يكونوا يوقدون إلاّ على الفحم والأخشاب وأحياناً روث الابل والأبقار!!
كنا في الصيف فشغلنا المروحة ووجهناها للوالد فطاب له الحال وسبح باسم العزة والجلال.. ظل معنا في الرياض فقد أرتاح صديق له شابب مثله جاي من ديرته وقال له: ليه ما ترجع للديرة؟ فقال ما أترك ديرة تصب وتهب وتشبب بلمسة! كان يقصد حنفية الماء.. والمروحة.. والدافور.. استراح لها غاية الراحة رحمه الله.. ثم قال الشيخ وهو ينظر للمجلس الذي نحن فيه:
والآن مكيفات وثريات وخدم
وماء بارد وماء حار.. والكهرباء عمت كل المملكة.. (نعمة تبي شكر
ويا كثر من لا يشكرون ولا يحسون بالنعمة.. وأنشد:
النعمه حمرا جياشه
ما يملكها كود وثقه
والجوع خد يديم اجواد
ودك ياطا كل زنقه
ليت ان الفقر يشاورني
كان ادهك به كل فسقه
كان ادهك به عير نيكر
عقب الصمعا صلف نهقه!
نقلا عن الرياض
صدقت وصدق قلمك يا أبو احمد فنحن نتقلب في النعم ... نعم ما كان يحلم بها جدادنا .. فـ لله الحمد والشكر .. وأسأل الله أن لا يغير علينا الحال إلا للأحسن ..
رحم الله الراحلون عن الدنيا رحم الله بنجامين فرانكلين و الساندرو فولتا رحم الله توماس اديسون