(مُتْ قاعد) شعار العجزة والمتشائمين

12/10/2021 1
عبدالله الجعيثن

في اعتقادي أن مرحلة التقاعد من أجمل المراحل .. فحين يبلغ الانسان الستين - رجلاً كان أو امرأة- ويُحال إلى التقاعد، يستمتع بحرية عجيبة لم يعرفها حتى في مرحلة الطفولة .. فإن الطفل يعيش حرية مقيدة، من ناحية، ولا يحس بطعمها لأنه لم يعرف غيرها بعد، فلا يشعر بجمالها إلّا بعد أن يفقدها..

الحياة تبدأ بعد الستين.. والتقاعد حرية ومباهج

أما الإنسان الذي جاوز الستين فإنه قد ذاق أعباء المسؤوليات، وعانى كثيراً من تقييد الحرية، ومن كثرة الواجبات، فهو مُطالب بعمل يومي مستديم، وكثيراً مايكون عملاً ثقيلاً في كثير من الوظائف، كما أنه يُواجه بأصناف وأنواع من الرؤساء فيهم المتسلِّط والمتفهِّم، والعاقل والأحمق، والعادل والظالم .. وإذا كان هو الرئيس فأمامه جبال من المسؤوليات وأنواع من الموظفين والعاملين بين كسول ونشيط، ومخلص ومراوغ، ومُجدٍّ وعاطل، وغبِّي وذكي، فهو موزع الهم بين هؤلاء .. وهؤلاء … مطالب بأن يكون متعدد الشخصية يعامل كل موظف بما يناسبه .. ولا شك أنّ هذا يتعب المدير .. ويضغط على أعصابه .. ويجعله يقسو أحياناً ويظلم أحياناً فيندم .. كما يتساهل أحياناً ويتغافل وقد يقع في مصائب ومحاسبات .. في كل الأحوال تزداد الأعباء على المدراء.. ويندر أن يرضى عنهم أكثر الموظفين .. ثم إن فوق كل مدير مديراً آخر.. فهو مضطر للتعامل المختلف والصبر الشديد والمصانعة وتسيير الأمور بما يرضيه ومالا يرضيه .. ومواجهة مختلف المراجعين وبعضهم مزعجون.

هذا غير مسؤولية الأولاد -وهي الأهم- وغير السعي لتكوين نفسه وبناء بيته وتحسين حياته وزيادة دخله ، والذي كلما زاد زادت معه الأعباء والمصاريف، في حلقة مفرغة لا أول لها ولا آخر..

ثلاثون لن أنسى ولن أتذكّرا ولن أخبر العمر الشريد بما جرى

ولكن عندما يتقاعد الإنسان بعد الستين، يخلص من جُلّ تلك الأعباء، فهو قد كّون نفسه تقريباً، وأولاده قد اعتمدوا على أنفسهم في الأغلب، ووقته صار ملكه، فيحس بطعم الحرية بعد أن ذاق أنواعاً من القيود، ويشعر بحلاوة الانطلاق بعد أن كان مشغولاً بأنواع من الارتباط، ويفرغ لما يحبه ويرضيه ويُلبّي أشواقه وخاصة عبادة ربه سبحانه وتعالى، ثم ممارسة هواياته التي شغله العمل والمسؤوليات عنها، وهذا يتحقق لمن هو إيجابي التفكير واسع الأفق واثق النفس ومُحب للحياة، إمّا أصحاب النظرة السلبية ومدمنو الشكوى والتشاؤم فهم لا يجدون للحياة طعماً حتى وهم شباب فكيف بهم وهم شيوخ؟ ولعلهم من أطلقوا على (التقاعد) اسم : ( مُتْ قاعد) .. وهذا منتهى السلبية والتشاؤم والاستسلام للهمّ وضيق الصدر والاكتئاب، ومايؤدي إليه من إزعاج الزوجة والولد، وبقاء الشيخ عبئاً على نفسه وعلى أهله، خاصة إذا كان مُحبّاً للسيطرة في عمله - على غير عدل أو علم- فإنه وقد فقد هواية السيطرة بفقدانه عمله- يفرض تلك الخصلة الكريهة على زوجته وأولاده فينزعجون منه غاية الإزعاج مهما داروه وصبروا عليه، فإن فرض السيطرة العمياء كريه .. وللصبر حدود ..

ليت منهو وقّع أوراق التقاعد والاداره وافـقـت والهــمّ زاحــــي

وللخروج من هذه الحالة المتعبة للمتقاعد وأهله، ينبغي أن يشرع المتقاعد - من هذا النوع - في إيجاد عمل يناسبه، يُفرّغ فيه طاقته التي كان يفرّغها في أعصاب أهله ، ويحقق ذاته ، ويشعر بأهميته، فإن تسلط بعض المتقاعدين على الزوجة والولد ينشأ من الرغبة في إثبات الأهمية ، ولكن هذا التصرف - التسلط- لا يُنتج إلّا مزيداً من الإهمال بالمتقاعد، والنفور منه، وربما الثورة عليه، كما أنه يولّد في نفس المتقاعد المزيد من السخط على ذاته، وتوتّر أعصابه، وسواد الحياة في عينيه، واقترابه من الاكتئاب الذي إن ضربه وعشش في رأسه أذاقه الويلات.. أما الذي يفرح بمرحلة التقاعد ، ويعتبرها انفتاحاً على الحياة ، وخلاصاً من كثير من الأعباء والقيود، وبداية رائعة لحياة الحرية والابتهاج والانطلاق، وإضفاء المزيد من الحب على شريكة الحياة، وأخذها في أسفار جميلة داخل البلاد وخارجها، واصطحابها للمطاعم والمقاهي والفنادق، بالإضافة إلى العناية التامة بالمظهر والصحة، والرياضة، والحرص على القراءة والثقافة، وصحبة الأخيار المرِحِين الأجواد، فإن مثل هذا تمتلئ حياته بالسرور والحبور، ويكون تقاعده بشارة خير لأهله ، وبداية حب جديد لزوجته، تنفخ في ناره حرارة الذكريات، وحلاوة الامتنان، وجمال المشاركة، وهذا مانراه حين نسافر، فإن كثيراً من الأزواج المسنين، والذين تجاوز بعضهم الثمانين، يخرج الزوجان معاً في أبهى مظهر ، يداً بيد، وقلباً إلى قلب، يمشيان معاً، ويتبادلان الابتسام، ويجلسان في المطعم على طاولة واحدة ، وربما طلبا (وجبة واحدة) وتقاسماها بمرح وحبور ..

والعصر الحديث يملأ الوقت بما ينفع ويمتع، وبشكل متنوع، لذلك هناك كثيرون يطلبون التقاعد المبكر، إحساساً منهم بأن (الحرية مالها ثمن) وأنهم (يريدون أن يعيشوا حياتهم) .. يقول الشاعر :

ليت منهو وقّع اوراق التقاعد

والاداره وافـقـت والهــمّ زاحــــي

استلم كامل حقوقه والعوايد

سلّم العهـده وغادر واسـتراحــي

مانتظر حفلن توزع به شهايد

وصـور تذكـار مافيـهـا صلاحـــــي

اكتبوا له نشكرك خدمتك واجد

ونـتــمنى لك بدنيــاك النجاحــي

صار من عقب ارتباطه يابوماجد

حـر مثـل الطيـر كفــاخ الجنـاحـي

ماحداه الزام عن بعض المقاصد

لانــوى له ديــرة شــغل وراحـي

واصلن غاليه ولربعه معايــــد

في اعياد الفطر واعياد الاضاحــي

لا زمه يقضيه وبكيفه يواعـــــد

ما يراجـع ريّسـه يبغى السماحـي

لا اشتهى يرقد تخيّر بالوسايد

وان سهر ما هوجس بزام الصباحي

والهدف عند العرب ماهو بواحد

كل رجـل له مـرام وله مشـاحـــي

من يبي يقنص عساه يعود فايد

فيه بالمقنـاص رزق وانشــراحـــي

لاذكر في صحصح نزل وطرايـد

قال هـيا مايقـول الصيـد نــاحـي

ومن تنيشط حالته جدد بناهـد

ما فهـق لجـازته عقـد النـكاحــي

وكان حاله ماش والا ما يساعد

ينسـدح ويكثـر مـن الانسـداحــي

وكان شَفّه بالسفر ماهو بناشد

في بـلاد الله مع السـياح ساحــي

وخيرهم من كان في دنياه زاهد

يطلب الله بالثـبـات وبالصـلاحــــي

بين مكة والمدينة والمساجــــد

دايـم دربـه عسى دربـه سـماحـي

قايم بالليل للرحمن ساجـــــد

وكل ما نـادى المنـادي للفـلاحــي

قلتها وانا اعرف ارضاء الناس كايد

ولاني بفارض على الناس اقتراحي

والوظايف جمّعت شتى البدايـــــد

من جميع النـاس مجنون وصاحـي

فيهم الطيب عزيز النفس راكـــــد

عل يفـدونه مشافيـح شحاحـــي

وفيهم الانـذال والرديــان تاجـد

خمـة دايـم سوالفهم صيـاحــــي

والحظيظ اللي يبي يطلع تقاعــد

دام به قـوة وقبل يقــال طـاحــــي

عمري قضى بين الكراسي والاولاد

خمسين عام والحصص كنها احمول

يومي صغير لاانشدوني أبي استاد

حتى أدير الصف بالعرض والطول

يوم المراقب واقف تقل جلّاد

مِن ضَرْبته كم صاحي صار مشلول

والا المدير اللي خذاها بالعناد

من عرفتي له شاخص مثل ابو الهول

سنة التخرج رحت لديار ابعاد

بكيتهن يوم الخبر قال : منقول

راحن عشر وانا على الخط كداد

قالوا :عليك شوي وتصير مصقول

نقلك لامن غديت سرداد مرداد

على الاداره والحيا منك مشيول

بالواسطه دخلت وحطيت الاعياد

باشرت واسمي بالحمر صار مفصول

نصاب كامل يوم ناظرتهن زاد

على السوادس سابع صار مملول

قلت المطاعم جنبنا نفطر اكباد

وعند الملل طبخات والا صحن فول

جابوا تعاميم على روس الاشهاد

تمنع فطور وشاي وجوال محمول

دخلت فصل وهالني كثر الاعداد

اللي ورا عرفتهم منتهى الحول

قالوا : يجينا شايب درسه ارقاد

لااخذ مااخذ قام يتمثل بمخيول

ويناظر الساعه على غير ميعاد

وبين الحصص في شاشة البنك مهبول

قلت : التقاعد زين قال : انت نقاد

حطيت نفسك عني اليوم مسؤول

انا خبير بالعمل صاحب امجاد

على يدي نجح رجاجيل وفحول

عديت له من كملوا سن الابعاد

اقواهم اللي غادي تقل سملول

الضغط عالي ، والحلا عنده ازداد

وعند الدكاتر لااشتكى تقل كشكول

يقعد شهر والا سنه عقب الاجهاد

وان زاد عام فوق الاكتاف محمول

من عقب ذا قدمت مالي بمقعاد

واللي صفا لي راتب ياخذ اعقول

صرفك على راتبك يزود لو زاد

وش ترتجي والعمر رايح وماكول

نصف المعيشه راحة علم اوكاد

حر طليق عقب حبسك بالفصول

ماقلت انا الابيات تحطيم وارعاد

واللي خدم - عشرين - لايسمع القول

انا معلم وافتخر نثر وانشاد

كثر القصيده خدمتي شي معقول

واختامها صلوا على سيد الاسياد

المصطفى المختار هو خير مرسول)

*

وكتب الشاعر محمد حسن الزهراني إلى رئيسه:

(أَزِفَ الرحيلُ فليتك توعز للزملاء في الشؤون الإدارية بإنهاء إجراء تقاعدي المبكر لأفتح صفحة جديدة من صفحات العمر في فضاء مشرق آخر .. )

وأرفق مع الطلب هذه الأبيات:

ثلاثون لن أنسى ولن أتذكّرا

ولن أخبر العمر الشريد بما جرى

ثلاثون أنفــاس الثواني تعــدّني

وتنثرني قمحاً على سَغَـبِ القُـرى

وتكتب ما يُملي نُهى الشمس في دمي

شهيقا زفيرا في مدى النور أبحرا

وتعزف آمالي (كمانات) صبــرهـا

وتزرع آلامي على وجع الـــــثرى

وتحملني أنوَاؤها طَيفَ غيمـــةٍ

وأُمطرُ في الأرواح عشقــا معـطرا

ثلاثون مصباحي يقيني ودفتـري

خيالٌ فسيح فوق ما تحلـــــم الـذرا

ثلاثون تصطفّ الوجوه حمــــائما

بــذاكـرتي تتلـــو هــديــلا مُبِشـــرا

يراعي (عصا) موسي، وَجَنبَايّ (ناره )

وفي كفّيَ البيضاء ما يُبهج السُّرى

أبي غرس الإخلاص في النبض نخلةً

وعـــاهدته ألاّ يُبـــــــاع ويُشترى

وأمّي على نهر الدّعاء تصــــــبّني

وفـــاءً بما ترجو الصباحـات أثمرا

وعامٌ أتى بعد الثلاثين فائحا

بِمسك ختامٍ بالنجاح تأزّرا

 

نقلا عن الرياض