موارد الطاقة الطبيعية والسلوك الاقتصادي

11/10/2021 0
د.صالح السلطان

وفرة الموارد الطبيعية في دولة ما نعمة عظيمة من رب العالمين. ولكن أكثر الناس لا يشكرون، كما أخبرنا - سبحانه - في أكثر من آية. وجاء علم الاقتصاد ليؤكد ذلك تأكيدا غير مباشر.

هناك كم من التحليلات الاقتصادية التي ناقشت كيفية تأثر الاقتصادات من جراء وفرة الموارد الطبيعية. وموارد الطاقة، كالنفط والغاز، نالت نصيب الأسد من هذه الكتابات. واهتمت بدراسة السلوك الاقتصادي للناس، وتوزيع الاستثمارات قطاعيا. بصفة عامة، وفرة الموارد تؤثر في السلوك الاقتصادي للفرد والمنشأة، ومصدر التأثير أن وفرة الموارد تعطي الفرد قدرا من الثقة بالمستقبل. توقعات الدخل المستقبلي بدورها تؤثر في تصرفات اقتصادية كثيرة حاضرة، فمثلا تؤثر في أنماط الاستهلاك وفي التحسب للمستقبل، وفي تركيب المحافظ الأصولية.

الموارد ثروة. والثروة عامل من العوامل المؤثرة في الاستهلاك مثلها في ذلك مثل الدخل. وتحاول التحليلات استخدام أساليب اقتصاد قياسي لتقدير قوة التأثير لكل.

وفرة الموارد الطبيعية التي توفر صادراتها إيرادات عالية بالعملات الرئيسة - النفط أشهر مثال على هذه الموارد - تتسبب في تكون ما يسمى تأثير الثقة، وخاصة على جانب الطلب من الاقتصاد. ثقة الطلب سواء مباشرة، أو عبر الإنفاق الحكومي، وعبر السياسات من أموال مصدرها الموارد.

وفرة موارد الطاقة الطبيعية في دول غربية قبل أكثر من قرن تسببت في مرض اقتصادي سمي المرض الهولندي. كيف؟ اكتشف الغاز الطبيعي في هولندا في القرن الـ19 الميلادي. ونتجت من هذا الاكتشاف آثار مرغوب فيها وآثار غير مرغوب فيها. على رأس الآثار غير المرغوب فيها ارتفاع تكلفة الصناعة الهولندية، الأمر الذي أضعف تنافسيتها في الداخل والخارج، ومن ثم أصابها انكماش حاد. لماذا ارتفعت التكلفة؟ من أهم الأسباب أن اكتشاف الغاز تسبب في زيادة أجور اليد العاملة الهولندية مقارنة بالأجور في ألمانيا، وارتفاع سعر الصرف الاسمي والحقيقي للعملة الهولندية.

باختصار، المرض الهولندي يعني وجود قطاع منتج متضرر من ازدهار سريع "رواج" لقطاع آخر، وعكس ذلك ازدهار قطاع من جراء تضرر سريع لقطاع آخر. وسياسات التيسير الكمي في بعض دول الغرب تسهم في ظهور صورة جديدة من المرض الهولندي.

في الدول النامية ذات الوفرة في الموارد الطبيعية، نظر إلى المشكلة من جانب آخر. نشأ المرض من أثر الرواج السريع الذي أدى إلى زيادة الإيرادات فالدخل أنفق أغلبه عادة على الخدمات. وبالنظر إلى أن هذا الرواج وهذا الدخل غير مستمرين، وبالنظر إلى صعوبة خفض أو القبول بخفض مستوى المعيشة، فإن المشكلة تنشأ من تأثير انخفاض الإيرادات لاحقا.

التسمية بالمرض الهولندي حدث توسع في استعمالها لتشمل حالات يجمع بينها ارتفاع سعر الصرف الحقيقي، ولذا يسمي بعض الكتاب ارتفاع أسعار الصرف الحقيقية بالمرض الهولندي.

أسعار الصرف المعتاد على سماعها - مثل كون سعر صرف عملة كذا لكل دولار يساوي كذا - لا تعكس فروقات مستوى الأسعار بين الدول، ولذا فهي أسعار صرف اسمية. أما أسعار الصرف الحقيقية، فتعطي أسعار سلع وخدمات دولة مقارنة بأسعار سلع وخدمات دولة أو دول أخرى، ولذلك فهي تعتمد على أسعار الصرف الاسمية وعلى مستويات الأسعار في الدول. على سبيل المثال، بقاء سعر صرف عملة كذا الاسمي مقابل الدولار كما هو، فإن ارتفاع مستوى الأسعار في دولة تلك العملة أكثر من ارتفاع الأسعار في أمريكا، يعني زيادة سعر الصرف الحقيقي لتلك العملة، وجعل السلع المستوردة أرخص من أسعارها السابقة، وهذا يضعف القوة التنافسية للإنتاج المحلي لتلك الدولة.

ازدهار قطاع ما يدفع إلى تحرك موارد القطاعات الأخرى تجاهه، إذا اشترك القطاع الرائج مع القطاعات الأخرى في عوامل الإنتاج. ومن ثم فرواج ذلك القطاع يحفز عوامل الإنتاج للتحرك تجاهه، ما يدفع أسعارها إلى الارتفاع. وهذا يؤدي في النهاية إلى ارتفاع في أسعار الصرف، وإلى انخفاض ربحية وتدهور إنتاج القطاعات الأخرى المنتجة للسلع القابلة لأن تستورد. هذا الأثر ليس بقوي في حالة الرواج النفطي بارتفاع أسعار النفط. لماذا؟ لأن هذا الرواج لم تصاحبه زيادة الطلب على عوامل الإنتاج، والسبب أن قطاع النفط شبه مغلق في عوامل إنتاجه.

ما سبق تناوله مبني على وجود رواج، فماذا بشأن العكس؟ أي بافتراض وجود انكماش قطاعي سريع بدلا من الانتعاش. بافتراض أن الاقتصاد في حالة توازن "أي لا يوجد ما يسمى اختناقات وقلة معروض أو قلة طلب، وبمعنى آخر العرض يساوي الطلب"، فإنه يتوقع حدوث ركود ونقص في الدخل والاستهلاك، ما يدفع بأسعار الصرف الحقيقية في الأخير إلى الانخفاض، وهذا له آثاره التي قد تكون وقد لا تكون مرغوبا فيها.

وفق الله قادة هذه البلاد بالعمل على تحقيق اقتصاد متطور أكثر استدامة بتوفيق الله. ومن الأشياء التي تعمل "الرؤية" على تحقيقها تقليل ما سماه ولي العهد الإدمان النفطي.

جعلنا الله من الشاكرين لنعمه.

 

نقلا عن الاقتصادية