لا أعرف كم مرة ثار فيها النقاش مع الزملاء في الوسط الأكاديمي عن أي تخصصات قطاع الأعمال يتبع الآخر، عادة ما يثار هذا النقاش، عندما نجتمع بين أروقة المؤتمرات في فترات الاستراحة بعد لقاءات عملية مطولة وممتعة، وهذا النقاش غير المجدي عادة ما يصبح جزءا من الترفيه بين المحاضرات في الكليات، أو بعد اجتماعات المجالس المختلفة، لم يكن الهدف منه هو إثبات تفوق تخصص المحاسبة على تخصص إدارة الأعمال، أو العكس، أو دور ومكانة تخصص الاقتصاد، هل العلم الذي بدأ قبل العلوم الأخرى هو الأصل بينها؟ ثم يتبع ذلك نقاش حول تاريخ كل تخصص، ليتحول النقاش تدريجيا إلى الأهمية للحاضر المعاصر، متطلبات سوق العمل، غير ذلك، لكن ينتهي النقاش كما بدأ، كل تخصص مهم وكل له دوره. ولولا هذا التنوع ما ظهرت كل هذه الأبحاث والدارسات والمدارس.
لكن هذا لا يعني وجود صراع خفي بين أبناء هذه التخصصات، حتى بين أبناء كل تخصص في فروعه، وأتذكر اندلاع نقاشات حادة جدا بين الزملاء عن اسم الكلية، وهل هي كلية إدارة الأعمال أو كلية الأعمال هكذا دون كلمة إدارة، أم هي كلية العلوم الإدارية، أو كلية المال والأعمال، أو كلية العلوم الإدارية والمالية، نقاش لم تسلم منه كلية في العالم أجمع، ولقد شهدت مثل هذه النقاشات في الكليات البريطانية والأمريكية على حد سواء، حتى بين فروع التخصص الواحد هناك نقاش مماثل بين تخصص المحاسبة المالية والمراجعة الخارجية، والمراجعة الخارجية والداخلية، والمحاسبة الإدارية والمالية، حتى بين تخصص المحاسبة الحكومية والمالية العامة، ورغم كل هذا التنوع الضخم جدا والثري للغاية، فيبدو أن توطين المهن لم يفرق بينها جميعها، بل عدها كلها محاسبة مالية. فهل انتهى النقاش القديم أم تغيرت كليات الأعمال، أم أن توطين المهن لم يراع كل هذا التنوع؟
موضوع توطين المهن موضوع استراتيجي بالنسبة إلى الاقتصاد السعودي، فمن خلاله يمكن بناء جيل من الشباب المتمكن مهنيا وتأهيلهم بما يمكنهم من تقديم خدمات استشارية سواء كانت إدارية أو مالية، كما يمكنهم المنافسة على الوظائف في التخصص ذاته التي توفرها المؤسسات الدولية بما يحقق لنا قوة ناعمة قادرة على التأثير العميق في السياسات الدولية، وهذا بخلاف الآثار الإيجابية الاجتماعية والإنسانية وتحقيق مستويات عالية من جودة الحياة، ذلك أن هذه المهن العالية ذات دخل مناسب وتضمن حياة جيدة للمهنيين وعائلاتهم، كما أنها في مجموعها تمثل قطاع الخدمات المهم، الذي يسهم بأكثر من 56 في المائة من الناتج المحلي، ولقد أحسنت وزارة الموارد البشرية في إطلاق هذا المشروع الذي من خلاله سيتم توطين مهن عديدة ويحقق مواءمة بين سوق العمل والتعليم الجامعي، وقد يشعر البعض بأنني قد أسهبت في هذا الموضوع في المقال الماضي خاصة قضية المواءمة.
لكن في هذا المقال، فإنني ألفت النظر إلى أن نجاح مشروع التوطين من جميع جوانبه المهنية والاقتصادية والاجتماعية مرتهن بالممارسات الجيدة لفعل التوطين نفسه، وتطبيق المشروع على أرض الواقع، ولا بد للمشروع أن يحافظ على الكيان الاقتصادي والعلمي للمهن من خلال المحافظة على الشخصية الاعتبارية لكل مهنة وقضايا أخرى لا تقل أهمية، مثل: الاستقلال المهني والمحافظة على عدم التأثير والتداخل الفكري بين المهن، واعتبارات أخرى ذات أهمية قصوى، مثل: التعليم المستمر وتعزيز موقف كل منظمة مهنية واستقلالها المالي والإداري وآليات الترشح والانتخابات في مجالسها الحاكمة.
وإذا كانت الأمور تبدو واضحة مع توطين مهن مثل الطب والمحاماة، فإن واقع الحال في مهن قطاع الأعمال لا تبدو بذلك الوضوح، والسبب هو اعتبار كل هذه المهن محاسبة مالية فقط، وإجبار المنتمين لها بالتسجيل لدى هيئة واحدة وهي هيئة المحاسبة و المراجعة، ورغم طرحي هذا الموضوع سابقا من جانب تأثيره السلبي غير المباشر في العملية التعليمية والمواءمة بين سوق العمل والتعليم، فإنني أعيد طرحه هنا كما قلت من منظور آخر وهو الاستقلال المهني الضروري لإنجاز الأعمال وكذلك أهمية الاختبارات المهنية والتعليم المستمر كجزء لا يتجزأ من عملية توطين المهن، فالمسألة ليست السعودة فقط، بل السعودة مع أفضل تأهيل للسعوديين الممارسين.
المسار المهني Career من أهم موضوعات سوق العمل وعليه تقوم فكرة التوطين المهنية عموما، وهو السلسلة المتعاقبة من التطوير المستمر في تخصص ما يمارس وفق معايير مهنية تشرف عليها منظمات يتم تشكيلها من تجمع هؤلاء المهنيين المختصين، فهم الذين يحددون شكل المسار المهني والتعاقب الوظيفي في المهنة، وكلما كانت المهنة ذات طابع دولي وشريحة ضخمة جدا من شركاء المهنة، فإن هناك سلوكا مهنيا وقواعد عمل واختبارات مهنية مجمعات عمومية وانتخابات وكل هذا يتطلب تسجيلا مهنيا في منظمة لا بد أن تحصل على اعتراف دولي من جميع منسوبي المهنة في العالم حتى تستطيع أن تمنح المهنيين في مساحتها الجغرافية تعليما راقيا مستمرا يتوافق مع أفضل الممارسات العالمية، وعليها - أي المنظمة المهنية - أن تخصص يوما للتجمع المهني، يلتقي فيه الشركاء معا للتعارف وتبادل الخبرات ونماذج العمل وتوصيات المستقبل، هنا بالذات لا بد لكل مهنة من استقلالها وإجبار المهنيين من شتى التخصصات على التسجيل في منظمة واحدة يقود إلى أحد أمرين، إما أن يصبح التسجيل المهني لا معنى حقيقيا له، وفي هذا ضرر كبير على مفاهيم التمهين والتعليم المستمر، قواعد السلوك والإشراف الفعال، أو أن تفرض أجندة مهنة واحدة على باقي التخصصات، وبذلك تفقد تلك المهن وجودها الحقيقي وتندثر أو تنشأ مسميات جديدة وجمعيات مجتمع مدني مستقلة للإشراف المهني دون ارتباط حقيقي بسوق العمل، مع تعدد الجهات تتضارب المصالح ويصبح التعاون تنافسا والتعصب محل العمل المهني الاحترافي.
نقلا عن الاقتصادية