التعليم أكثر نواحي الإدارة العامة جدلا وأهمية وربما الأكثر صعوبة، الجدل مصدره الإجماع على أهمية التعليم دون أي تفصيل والأهمية تنبع من العلاقة مع الاقتصاد وجودة الحياة عامة حتى سلامة وحيوية المجتمع، وتحد من ناحيتين الأولى أن الربط بين التعليم والاقتصاد طويل ومعقد، والأخرى أن النظرة العامة للتعليم عادة مثالية، ولذلك نجدها عمليا بعيدة عن الاقتصاد. في ظل هذه التدخلات يصعب تكوين إجماع، لكن دون إجماع على طبيعة الدور يصعب إيجاد منظومة إدارية قادرة على التنفيذ. للتحدي جوانب كثيرة، ولذلك سأركز على ما أراه أهم ثلاث نقاط تجمع الكفاءة والمساءلة الإدارية، والمنافسة الداخلية والدولية، والإعداد الاقتصادي. إخصائيو التعليم يذكرون دائما أن دائرة الكفاءة التعليمية تدور حول المعلم والمدرسة والمنهج، لكن هذه في نظري دائرة صغرى عملية فقط لن تكتمل العملية التعليمية دونها، لكن ما أنا بصدده هو دائرة أوسع. الدائرة الكبرى استراتيجية والصغرى عملية، لذلك هناك تكامل واضح. النجاح ضروري في كلتيهما كي يتحقق نجاح التعليم والتنمية الاقتصادية.
النقطة الأولى: يقال في الاقتصاد لن تعرف القيمة دون معيار، فدون قياس يصعب تحديد القيمة، لذلك المعيار الحقيقي يخضع للمقارنة الدولية من خلال الاختبارات العالمية، فهناك اختبارات دولية لكل فئة عمرية في العلوم والرياضيات والتحليل والإدراك. هذه معروفة حتى لغير المختصين مثل اختبارات التيمز. دون مقارنة دولية يصبح المجتمع في دائرة خاصة به بعيدا عن المنافسة الدولية وتصبح الجهات المسؤولة عن التعليم تعمل دون معايير لقياس العائد على الاستثمار وتراهن على نجاح في أحسن الظروف غير موثق، وكذلك تصبح عمليات إصلاح التعليم تعيد نفسها دون مرجعية وآلية للمساءلة.
النقطة الثانية: يصعب أن يكون هناك تعليم جيد دون منافسة داخلية. فمن ناحية عملية تحتاج إلى منافسة داخلية كي تستطيع المنافسة عالميا. اختبارات القدرات والتحصيلي وغيرها من اختبارات الكفاءة خطوة جيدة نحو المنافسة لكن لا بد للمنافسة من تقنين على أكثر من مستوى، منها تقليل طلاب الجامعات كي ترتقي جودة المخرجات ويتوافر طلاب أعلى مستوى للتعليم المهني والفني. أحد إفرازات تقليل الطلاب تهرب البعض لجامعات خاصة وخارجية، وهذا تطور حميد في ظل توظيف معايير عالية لقياس تأهيل المخرجات، أو قصر الوظائف الحكومية على من يجتاز اختبارات الكفاءة الوطنية لأن الجامعات الحكومية أعلى متطلبات ومنافسة، فمثلا لا بد من التمكن من اللغة العربية للوظائف العامة.
النقطة الثالثة: التعليم رسالة وحق عام، لكن أيضا وسيلة اقتصادية، لا بد للتعليم أن يكون له دور محوري في العملية الاقتصادية. تنمية المهارات والإعداد المهني أساسية لإعداد الكوادر الضرورية لبناء اقتصاد حديث. التعليم الأكاديمي جناح والتعليم الفني جناح آخر. المصانع والورش والإعمار والصيانة والخدمات أغلب احتياجاتها البشرية ليست من مخرجات الجامعات بل من المعاهد الفنية. أقترح تحديد معيار لمتابعة التطور في دور التعليم الأكاديمي والفني من خلال مراقبة العلاقة في حصة دخل خريجي الجامعات والفنيين على المستوى العام ومحاولة قياس ومقارنة دخل المهن الفنية مع خريجي الجامعات. هناك حاجة إلى الارتقاء بدخل المهن، لكن هذه أيضا مرتبطة بالعلاقة بوجود الوافدين والمنافسة مع المواطنين والتوازنات الاقتصادية. لا يمكن للمجتمع أن يحمي البيروقراطية من المنافسة العالمية ويقبل بها في المستوى الفني ويتوقع أن يوجد ويرتقي الفني الوطني. التعليم خاصة الأكاديمي أنجز كثيرا على مستوى الإعداد، لكن الفرز لا يزال يحتاج إلى ترتيب مختلف ودقة أعلى. القيمة الاقتصادية لن تصنع من تكاثر الدراسات الاجتماعية الأكاديمية ودفع رواتب لهم أعلى من الفنيين. الوزارات والجهات المعنية تقوم بجهد مضاعف وتحاول رفع المستوى وتحقيق أهداف الحكومة السامية، خاصة برامج "الرؤية" النبيلة، وليست المملكة وحيدة في هذا التحدي. العملية التعليمية كما أراها من خلال النقاط الثلاث منظومة واحدة مكملة للدائرة الصغرى، وأيضا من الأهمية والحجم والتعقيد، حيث إن الوزارات المعنية يصعب أن تقوم بالدور وحدها. لا بد من التعاون بين عدة جهات فاعلة اقتصاديا وإداريا لإعادة الهيكلة والتعامل مع التحدي معنويا وموضوعيا.
نقلا عن الاقتصادية