من ذكرياتنا القريبة والحبيبة (مشتل الخرج) الذي كان أحلى متنزه لنا نحن سكان الرياض، نفرح بالذهاب إليه، والمرح بين يديه والاستمتاع بأشجاره، وسماع تغريد طيوره، والجلوس حول ساقيه الجاري، وزيارة (عيون الخرج) التي كانت تمتلئ بالماء حتى تفيض.. ولكنها الآن تغيض وتطلق دمعتها الأخيرة.
كان (مشتل الخرج) الشهير عبارة عن حدائق منسقة، فيها جلسات مفصولة بالأشجار، كأن أشجارها الزاهية الخضراء أسوار، وكل جلسة في مساحة غرفة كبيرة، لها مدخل جانبي، وكان المتنزهون يحضرون من الصباح الباكر ليحجزوا مكاناً في هذا المشتل الجميل، وأكثرهم عائلات ومعهم جميع ما يلزم لكامل اليوم، وفي هذا المشتل يُفْطرون ويمرحون، ويمزحون، للنساء زاوية خضراء من المشتل، وللرجال زاوية مجاورة، تتولى النساء إعداد الطعام، ويقوم الصغار بنقل الأطباق لقسم الرجال، والكل سعداء يتنفسون الهواء الطلق، ويستمتعون بالخضرة الغنّاء، ويسمعون ترنم الطيور وخرير الماء، ويجلسون حول ساقي الخرج الشهير، والذي حفت جانبيه الأشجار الطويلة، ونمت على ضِفتّيِه الأزهار الجميلة، وناح على غصونه الحمام، وترنمت أصناف الطيور بأعذب الألحان.. بين مياه جارية، وخضرة زاهية، وأنسام هانية، وصحبة طيبة، ونفوس راضية.
كانت ترتفع أشجار ( الكينا) الضخمة الهائلة، وتُلقي أشجار الياسمين الرشيقة أقمارها البيضاء على أغصان (الكينا) التي تحتضنها بحنان، وتحميها من لهيب الشمس، و(توشوشها) بالمرح والهمس، ويجد (المتنزهون) تحت شجر (الكينا) ظلّا ترمي الشمس من خلاله عليهم (دنانير الذهب) وحولها (ساقي الخرج) يمضي سلسلاً في سلسل، يُروي الأشجار، ويداعب الأزهار، ويَروي قصة حب، ويمنح المتنزهين منظراً رقراقا، ويُمتع الجالسين برائحة الندى والورد، ويرطّب أجواءهم الحارة، وينقي بيئتهم الحلوة، التي - وقتها- لم تتلوث بكثرة السيارات والسكان، ولم تتأثر بزحف المباني على المزارع القريبة التي تلوح للناظرين تومض بالأحلام.
وفي داخل المشتل مسبح كبير يمتلىء بالسابحين المحبورين، والمتفرجين المرحين، والعابرين في سرور، والناظرين ببهجة، حيث ترفرف (عين الخرج) برموشها الساحرة وتثرثر بمياها الهادرة.. تلك العين التي أصبحت -مع الأسف- أثراً بعد عين.
وقد يبدو من غير المقبول مقاربة مشتل الخرج و أشجاره المتواضعة بحدائق الأندلس الرائعة، فضلاً عن المقارنة، ولكن الحكاية لا تُروى بهذه الطريقة، وإنما بمدى إحساس الناس نحو المكان.. فإن إحساس (المتنزهين في مشتل الخرج) في هذا الزمن القريب لا يقل متعةً ودهشةً عن إحساس الناس بمتنزهات وحدائق الأندلس وقرطبة في ذلك الزمان، فوقتها كان الكثيرون لم يسافروا خارج المملكة، ولم يروا غير الصحراء القاحلة، والقرى الشاحبة، فكان (مشتل الخرج) في عيونهم غايةً في الجمال وغابةً من الأشجار، وشلالاً من الجمال والمتعة، وكان تأثيره في الإحساس والوجدان يُقاس بتأثير حدائق القرطبة لدى عرب الأندلس في ذلك الزمان فهم اعتادوا عليها ولم تعُدْ تُدهشهم بشكل يفوق دهشة المتناثرين حول (مشتل الخرج) وساقيه الذي يجري وهو يدندن ويُغنِّي.
وأوضح دليل على مانقوله أن (مشتل الخرج) أُعيد تأهليه الآن، ولكن الإنسان لم يعد هو ذلك الإنسان، والفرحة السهلة لم تعُد كما كانت في ذلك الزمان.
ثم دار الزمان دورته، فذبل مشتل الخرج الشهير، وتوقف ساقيه عن الجريان، وغاضت عيونه فلم يبق منها إلا دموع، وزحف العمران على الأشجار، وسحق الأزهار، وطرد الطيور، وتغيّر كل شيء بسرعة عجيبة.. ولكن ذكريات مشتل الخرج الجميل لا تزال تداعب جيلي إلى الآن.. ولا تزال نزهاته المتميزة محفورة في الذاكرة، وساقيه الجاري كأنما أراه الآن، وأرى على جانبيه أنواع النبات والأزهار، وعلى ضفتيه سوامق الأشجار، في ذلك الزمن الجميل القريب، والذي غاب.. وتغير.. بسرعة وبشكل عجيب.
وقد يكون من المفارقة مقارنة مشتل الخرج، بحدائق قرطبة في الأندلس في عهدها العربي الذهبي، حين كانت ملء العين والخاطر، ووحي العاشق والشاعر، وملتقى ولّادة وابن زيدون.. ولكن لا مفارقة هنا.. ولا هناك.. فليست الأمور الوجدانية تقاس بالمساحات والإمكانات وإنما تقاس بالشعور والإحساس، كما ذكرنا سابقاً فكلا المكانين أثار العديد من المشاعر والذكريات، في عهد ولادة وابن زيدون القديم، وفي عصر مشتل الخرج القريب :
انا تل قلبي تل هوى البال في المشتل
ابو مبسم ٍ يقتل وعيون قتّاله
لقيت الخطَر كله بعينه على حله
سيوف الهوى سله وتسعين خياله
انا ويش مصلوحي خطير ٍ على روحي
والقلب ما يوحي ولا طاع عذاله
مرض خاطري ودواه مثله وفي شرواه
انا خاطري يهواه وهو خاطره داله
به العين مفتونه ولا اقوى العزى دونه
أحجاه مقرونه.هني من تهيّا له
انا عقب ماشفته على طول والفته
له القلب كلفته. اراعيه وابرى له
قتيل العيون السود مايلحقه منقود
من اقفى نعيم العود وانا حالتي حاله
ملكني هوى الغالي عقب عرفنا التالي
هو اللي على بالي وانا اللي على باله
قلوب المحبيني سوات الموازيني
وانا الدمع من عيني على الخد نزاله
(أحمد الناصر)
إنّي ذكرْتُكِ، بالزّهراء، مشتاقا
والأفقُ طلقٌ ومرْأى الأرض قد راقَا
وَللنّسيمِ اعْتِلالٌ، في أصائِلِهِ
كأنهُ رَقّ لي، فاعْتَلّ إشْفَاقَا
والرّوضُ، عن مائِه الفضّيّ، مبتسمٌ
كما شقَقتَ، عنِ اللَّبّاتِ، أطواقَا
يَوْمٌ، كأيّامِ لَذّاتٍ لَنَا انصرَمتْ
بتْنَا لها، حينَ نامَ الدّهرُ، سرّاقَا
نلهُو بما يستميلُ العينَ من زَهَرٍ
جالَ النّدَى فيهِ، حتى مالَ أعناقَا
كَأنّ أعْيُنَهُ، إذْ عايَنَتْ أرَقى
بَكَتْ لِما بي، فجالَ الدّمعُ رَقَرَاقَا
وردٌ تألّقَ، في ضاحي منابتِهِ
فازْدادَ منهُ الضّحى، في العينِ، إشراقَا
سرى ينافحُهُ نيلوفرٌ عبقٌ
وَسْنَانُ نَبّهَ مِنْهُ الصّبْحُ أحْدَاقَا
كلٌّ يهيجُ لنَا ذكرَى تشوّقِنَا
إليكِ، لم يعدُ عنها الصّدرُ أن ضاقَا
لا سكّنَ اللهُ قلباً عقّ ذكرَكُمُ
فلم يطرْ، بجناحِ الشّوقِ، خفّاقَا
لوْ شاء حَملي نَسيمُ الصّبحِ حينَ سرَى
وافاكُمُ بفتى ً أضناهُ ما لاقَى
لوْ كَانَ وَفّى المُنى، في جَمعِنَا بكمُ
لكانَ منْ أكرمِ الأيّامِ أخلاقَا
يا علقيَ الأخطرَ، الأسنى، الحبيبَ
إلى نَفسي، إذا ما اقتنَى الأحبابُ أعلاقَا
كان التَّجاري بمَحضّ الوُدّ، مذ زمَن
ميدانَ أنسٍ، جريْنَا فيهِ أطلاقَا
فالآنَ، أحمدَ ما كنّا لعهدِكُمُ
سلوْتُمُ، وبقينَا نحنُ عشّاقَا!
(ابن زيدون)
الا ياهل الطايف متى ينتهي المشوار
تجو عندنا في مشتل الخرج للديرة
ترى الذكريات كثار لكن بلا تذكار
تضيع القوافي لأختفى صاحب السيرة
سقى الله عيدن كنت معنا بذيك الدار
قضينا معاكم طيّب الوقت والسيرة
ترانا على خبرك نزيد الدهق مسمار
على الدلة الصفرا ذكرنا ذيك السيرة
ولكن يازين الحلايا على التذكار
طلبت الهوى من صاحب مانبي غيرة
الا ليتني في حبكم غاوين مختار
احبك على وصلك وَغير بتغييرة
الا ياهل الطايف متى ينتهي المشوار
تجو عندنا في مشتل الخرج للديرة
(حمد الطيار)
وصقيلة الأنوارِ تلوي عِطفَها
ريحٌ تلفّ فروعها معطارُ
والنَّورُ عِقدٌ والغصونُ سوالفٌ
والجذعُ زَندٌ والخليج سوارُ
بحديقة مثل اللَّمى ظِلاّ بها
وتطلعت شَنَبا بها الأنوارُ
رقص القضيبُ بها وقد شرِبَ
الثرى وشدا الحمامُ وصَفَّق التيارُ
غَنّاء ألحَفَ عِطفَها الوَرَقُ
النّدي والتفّ في جَنباتها النوّارُ
فَتطلّعتْ في كل مَوِقع لحظةٍ
من كل غُصنٍ صَفحةٌ وعِذارُ
(ابن خفاجة الأندلسي)
نقلا عن الرياض