في الوقت الذي تم خلاله تحقيق كثير من التقدم على طريق الأنظمة والمواصفات والإجراءات المتعلقة بالمنتجات العقارية، بدءا من كود البناء السعودي وانتهاء بإقرار شرط الحصول على شهادة الاستدامة التي تستهدف وغيرها من الإجراءات ضمان سلامة وموثوقية بناء وتشييد الأبنية باختلاف استخداماتها، إلا أن كل ذلك لم يحد حتى تاريخه من تورط عديد من الأفراد والأسر في شراء وحدات سكنية مغشوشة البناء، التي تزايدت أعدادها بالتزامن مع زيادة تسهيل تملك المساكن، وكأنما أراد المتورطون في تشييد تلك المساكن المغشوشة استغلال هذا الاندفاع التنموي المشروع، والعمل على دس تلك الأصول غير المطابقة للمواصفات اللازمة في السوق، والاعتقاد أن لا أحد قد يتنبه لتلك المخالفات، وأنهم سينفذون من مسؤولية الملاحقة والمحاسبة، في الوقت ذاته الذي يتورط كثير من الضحايا من المشترين لتلك المساكن المغشوشة فيما لم يكن واردا أبدا لديهم، من خسائر فادحة وأعباء لا نهاية لها، عدا تحملهم سداد أقساط مستحقات تمويل الشراء، رغم عدم انتفاعهم من المسكن الباهظ الثمن، وقد يضطرون لإخلائه واستئجار مسكن آخر، والدخول في شتات مراجعات لا نهاية لفصولها بين عديد من الأجهزة ذات العلاقة.
لقد استغرق الحديث عن هذا الملف التنموي المهم جدا أعواما طويلة، ولم يظهر حتى تاريخه حل فاعل يعني أنه تم تجاوزه ومعالجته من جذوره، وكما أشرت أعلاه، نعم تم قطع كثير على طريق إقرار الأنظمة والمواصفات والإجراءات المتعلقة بضمان جودة البناء والتشييد، إلا أن كل هذا لم يثمر حتى تاريخه عن القضاء على وجود مساكن مغشوشة تعاني كثيرا من الاختلالات الهندسية التي قد تصل إلى عدم صلاحية الانتفاع من هذا المسكن المغشوش بأي حال من الأحوال، دع عنك التكاليف الباهظة جدا التي قد يتحملها المشتري لإصلاح ما أفسدته يد المقاول والبائع، ستضاف إلى التكلفة الباهظة لشراء ذلك المسكن، وما يتبعها من التزامات مالية طويلة الأجل على كاهل المشتري.
ما هذه الحلقة المفقودة في منظومة العمل على رفع جودة المنتجات العقارية رغم كل تلك الجهود والخطوات المهمة التي تم قطعها على هذا الطريق؟ إنها باختصار شديد جدا، العقوبات الصارمة والرادعة التي كان مفترضا أن تأتي في أول الطريق، وقبل استكمال أي خطوات أخرى، والاستناد قانونيا في أمرها إلى قاعدة منع وقوع الضرر على الغير، والعمل من ثم على تطوير وتحديث تلك العقوبات بالتزامن مع أي تطوير وتحديث يطرأ على كل من الأنظمة وأكواد البناء والمواصفات والإجراءات ذات العلاقة بالبناء والتشييد، بما يكفل حماية مصالح الأطراف كافة، وعلى رأسهم بكل تأكيد أفراد وأسر المجتمع، كونهم المتضرر الأول المحتمل في هذه المنظومة، وكونهم أكبر الضحايا الذين يدفعون ثمن هذا الغش العقاري في البناء خلال الفترة الراهنة، في الوقت ذاته الذي نرى جميعا عدم تحمل من ورط السوق العقارية في تلك المنتجات السكنية المهترئة لأي مسؤولية، انطلاقا من المقولة الدارجة في تعاملات السوق العقارية والمقولة غير المسؤولة: "أنا بعت .. وأنت اشتريت".
وليتيقن القارئ الكريم من الحجم الكبير لمشكلة من قد يتورط في شراء أحد تلك المنتجات العقارية المغشوشة، وفي حال بدأت عيوب البناء بالإعلان عن نفسها بعد عدة أشهر قليلة، بتصدع الجدران وهبوط الأرضيات، وقد تصل إلى سقوط الأسقف على ساكني المسكن، واضطراره إلى إخلاء المسكن مع أسرته، ورجاء ألا تكون الأضرار قد وصلت إلى تعرض أحدهم أو جميعهم إلى إصابات من جراء تلك العيوب الإنشائية، لتسأل نفسك الآن: إلى أين يذهب هذا المتضرر لاسترداد حقوقه؟ ولحصوله على التعويض اللازم عما لحقه من أضرار؟ وكم سيستغرق منه كل ذلك مالا ووقتا وجهدا؟
سؤال ستتعدد إجاباته وتختلف طروحاته، إلا أنها في نهاية الأمر لن توفر حلا أمام المتضرر، في الوقت ذاته الذي سنجد أن من يتضرر من شراء سلعة معمرة أو استهلاكية أو خدمة معينة، من السهل عليه معرفة أين يذهب لاسترداد حقوقه، ودفع الضرر الذي قد يكون وقع عليه، ودون عناء كبير منه، بل يصل الأمر إلى إيقاع العقوبات النظامية على كل من تسبب في تلك الأضرار على المستهلك، ولهذا شهدت الأسواق المحلية تطورا متسارعا في رفع جودة السلع والخدمات، ووصلت إلى أبعد من ذلك بكثير بمنحها المستهلك فرصة إرجاع أو استبدال السلعة إن لم تناسبه حتى إن كانت جيدة ولا تعاني أي خلل أو عيب.
إن المنتجات السكنية الأعلى ثمنا مقارنة بجميع السلع المعمرة والاستهلاكية، وما يترتب على شرائها على كاهل المستهلك من التزامات مالية طويلة الأجل، تعد ذات أولوية وأكثر حاجة لأن تتحصن بمثل تلك الإجراءات المشار إليها أعلاه، وهي الأولوية الواجب تحقيقها وترجمتها على أرض الواقع لأي مستهلك، التي تسبق أهميتها القصوى جميع ما تقدم ذكره بخصوص السلع المعمرة أو الاستهلاكية أو الخدمات التجارية، والتأكيد أن إقرار وبناء حزمة صارمة من العقوبات والجزاءات والغرامات الرادعة على أي متورط في بناء وتشييد منتجات سكنية مغشوشة، سيكون الخط الأول لحماية الاقتصاد الوطني والمجتمع على حد سواء من مخاطر تلك المنتجات، ومما قد يترتب عليها من أضرار وخسائر، وسيكون لإقرارها والعمل بها الدور الأكبر في ردع كل من قد تسول له نفسه طمعا وجشعا في الإقدام على الغش والتدليس وسوء البناء والتشييد، وهو ما سيوفر درجات أعلى من الحماية اللازمة لمقدرات البلاد والعباد، وسيؤدي بدوره إلى رفع كفاءة السوق العقارية وزيادة مساهمتها في الاقتصاد الوطني. فهل نرى قريبا ترجمة حقيقية لهذه التطلعات المشروعة على أرض الواقع، التي طال انتظارها وتزايدت الحاجة إلى وجودها فترة بعد فترة؟ هذا ما نأمله جميعا بإذن الله تعالى.
نقلا عن الاقتصادية