عجز القدرة عن الرغبة (يرعى الحيا بعيونه)

13/05/2021 1
عبدالله الجعيثن

أول ما سمعت هذا المثل من شيّاب في المشراق..! كنا في اجازة عيد، قضيناها في قرية وأنا وقتها مراهق..

بعد أداء صلاة العيد.. نُشرت موائد الطعام في حارات القرية الطيبة.. كل واحد يأتي بما عنده.. الذي جاءوا بجريش.. والذين قدَّموا رصعان.. أو مراصيع.. والذين جاءوا بموائد القرصان.. المهم أن الجميع سعداء.. نأكل ونفرح ونبتسم.. اليوم عيد.. والجو حلو.. والناس في فرح.. ويحبون بعضهم.. ولا بينهم غريب..

بعد رفع الموائد المنثورة.. سألت أين أجد كبار السن لأحييهم تحية الإسلام.. وأبارك لهم بالعيد.. فلم أكن من سكان القرية.. وإنما جيئتها زائراً في إجازة..

وحتى الآن بقيت تلك الزيارة في ذاكرتي أحلى من زيارة جنيف ولندن وباريس.. رغم مرور عشرات السنين!

التايه اللي جاب بصري يقنّه... جدد جروح العود والعود قاضي

وقيل لي إن كبار السن في المشراق الآن.. ودلوني على موقعه (الاستراتيجي) حثثت الخطى إليه.. وجدت عدداً من كبار السن جالسين في شمس الشتاء التي تدفئ وتضفي على المكان بهاءً وإشراقاً جميلاً وقد نثرت خيوط الذهب على الجدران.. وألقت من خلال (حائط النخل) القريب دنانير.. وذهَّبت خوص النخيل..

سلمت عليهم واحداً واحداً.. باركت لهم بالعيد السعيد.. وجلست معهم رغم أن فارق السن بيني وبينهم بعيد بعيد.. فأكثرهم جاوز السبعين.. وأنا - بعدُ - لم أبلغ العشرين.. لكنني أحب حديث الشيوخ.. وأجد فيه الطريف والمفيد.. وكنتُ أعشق القراءة.. وأحب كتب الأدب والبلاغة.. فأجد في حديث شيوخ نجد فصاحة ظاهرة.. وطرافة وبلاغة..

مرّ أسراب من الغيد الحسان.. وقد لبسن في العيد كل جديد.. وازدهت الألوان بين أحمر وأزرق.. بنفسجي وأبيض.. برتقالي وأخضر.. وماست على القدود.. مه طُهر وعفاف..

يغط غطيط البكر شُدَّ خناقه... ليقتلني والمرء ليس بقتَّال

* و(صَيور) أحد المسنين بعينيه ليرى الحسناوات من بعيد.. كما تفعل بآلة التصوير حين نجعل الحدقة تضيق.. فتكون الصورة أوضح إلى حد كبير..

 هكذا فعل الرجل المسن.. ضيق عينيه وضللهما بيديه عن ذهب الشمس.. وذهب بهما يرى ما يمكن أن يراه من أسراب الحسان اللواتي يتدافعن كأسراب القطا.. ويتبادلن الأحاديث والمزاح والضحكات التي نسمع وشوشتها من بعيد.. وكلما هبَّ ونمَّ النسيم..

* نظر شيخ آخر إلى صاحبه المسن وهو (يصيور) ويظلل عينيه ويصوبهما نحو سرب الحسان.. نظر إليه وضحك وقال:

* أبوصالح!.. الله يهديك.. وراك تناظر.. تزوَّج يا ملا الغنيام!!

قال أبوصالح وهو لا ينظر إليه.. وقال وهو يزفر:

* يا حلالاه!!.. لكن من أين لي!.. الله يخلف علي!!.. العين بصيرة واليد قصيرة!! فأشار له رجل مسن آخر، لم يبق في فمه ولا سن حين فتحه متكلماً:

* إيه.. يرعى الحيا بعيونه!!..

قال أبوصالح:

أنا أشهد.. أرعى الحيا بعيوني.. وأنت؟!.. أنت مثلي.. وأردى بعد!

وأخذني الفضول فقلت للرجل الفاضل الذي لم يبق في فمه أي سن:

إيش معنى (يرعى الحيا بعيونه) طال عمرك؟!

فقال وهو يضحك بضعف:

* يعني ما هنا قدرة ولا نشاط!! ما هنا أحد!! مثل البعير الهليم يناظر البعارين ترعى في المرعى الطيب وتأكل من أشهى الشجر والنبات وهو يعرف طعم هذا الأكل الشهي ويتمناه، لكنه - مسكين - ما يقوى يمشي على شان يقوى يرعى.. ما غير يرعى الحيا بعيونه.. يشوفه ولا يذوقه.. في آخر عمره لا سنون ولا معدة ولا قدرة.. ولو كل منه ورقة مرض أسبوع!!..

وهو مثل رفيقنا أبوصالح (يقاقي ولا يلاقي)..!

فزّ أبوصالح متظاهراً بنشاط متوهم وقال بصوت حاول أن يكون قوياً:

* أنا اللي (أقاقي ولا ألاقي) يا عنتر بن شداد؟!.. والله يا كانت لي سنين وأيام!

قال صاحبه وهو يضحك:

* كلنا كانت لنا سنين وأيام..!! المهم اليوم يا الزير سالم.. يا الله حسن الختام!

أذعن أبوصالح للأمر الواقع وأغمض عينيه ومسح وجهه بيديه وقال بهدوء:

إيه!.. الله المستعان!

قلت:

وفي دنيانا دائماً هنالك (الرغبة والقدرة).. فأسعد الناس من زادت قدرته على رغبته.. أما أشقاهم فهو بدون منازع من لديه رغبة عارمة وقدرة معدومة!!

اللهم لا شماتة!!

وقد عبر امرؤ القيس عن عجز القدرة إزاء الرغبة بشعر فيه قهر الرجال - والعياذ بالله - حين قال في رجل اعتدى امرؤ القيس على عرضه

(يغط غطيط البكّر شُدَّ خناقه

ليقتلني والمرء ليس بقتال)

وعبّر عن ذلك المتنبي بشكل رائع عام:

(لولا المشقة ساد الناس كلهم

الجود يُفقر والإقدام قتَّال)

وقول بصري الوضيحي في قصة مشهورة رواها الشيخ ابن خميس (رحمهما الله) في كتابه (من أحاديث السحر ص192):

التايه اللي جاب بصري يقنّه

جدّد جروح العود والعود قاضي)

وقال حميدان الشويعر يصور نفسه وقد أسن:

(أشبه ثليب في العنه

وان شاف المرعى ما ثار)

والثليب الجمل المنقطع المسن الذي ليس به حراك.

 

نقلا عن الرباض