لها ذكريات جميلة رغم أنها طين وطرقها ترابية ضيقة، مع ذلك عاش في تلك البيوت الصغيرة أسر كثيرة، قد يضم البيت الواحد الأجداد والأحفاد، رغم أن مساحته لا تزيد على 150 مترا في الغالب، وأكثرها أصغر من ذلك، والغرف في حدود ثلاث في المتوسط، مدخل البيت اسمه (دهريز) أوله درج يصل لمجلس الرجال، وآخره جدار ديوانية النساء يستر السكان، والديوانية متعددة الاستعمالات، لضيافة النساء في الشتاء واجتماع الأسرة وربما للأكل والنوم إذا زاد عدد سكان البيت ولم تسعهم غرف النوم التي هي الأخرى، لها عدة منافع واستخدامات، فربما كانت مخازن أثاث وأرزاق وكتب ومكان نوم، طرح الله فيها البركة..
بعد المدخل الصغير تأخذ (يميناً) فتجد المصباح مسقوفا على (سواري) من حجر وأمامه ساحة أو باحة يسمونها (بطن البيت) مفتوحة على السماء نلعب فيها الكرة ومختلف الألعاب ولا نشعر بضيق المساحة..
الساحة تؤدي غالبًا إلى المطبخ ودرج الأسرة الذي يصل بك إلى سطح مفتوح محاط بحجا صغير ربما زانته الشرف، تنام العائلة في هذا السطح صيفًا بعد رش الإسمنت بالماء مساءً ليبرد قليلًا فالتكييف غير موجود، هناك مراوح ومهاف من الخوص لكن بيوت الطين لا تشتد فيها الحرارة، كما أن البيئة كانت نقية والجو يكاد يخلو من باعثات التلوث والحر من نفثات التكييف والسيارات الكثيرة والعمائر التي تحجب النسيم، فكان النوم في تلك السطوح مريحًا صحيًا، ويوجد أيضًا سطح أعلى أكثر هدوءا وبرودة..
الكهرباء متوفرة (عداد صغير) على قدر الإنارة غالبًا لأن الأجهزة الكهربائية قليلة في البيوت وقتها، ولمبة الصفر تتنافض أمام الباب، حتى الثلاجات قليلة، لذلك يأتي رب الأسرة بالخضار طازجة وباللحم ملفوفًا في ورق من كيس إسمنت، الأم تقوم بأعمال البيت تساعدها البنات، حتى الولائم يتم إعدادها في البيت بما فيها طبخ ذبيحة كاملة مع الرز والجريش والقرصان التي يتم قرصها في مطبخ البيت، لا يوجد خدم إطلاقًا في تلك الحارات، لكن الجارات يفزعن لبعض في الولائم الكبيرة، والأبناء ينظفون غرفهم المشتركة وفرشهم ويقضون لوازم أهلهم ويأتون بالفطور في (عيبة من جلد) فيها الخبز الحار ومعدنة صغيرة فيها الفول، وربما توفر البيض أحيانًا، الجميع تقريبًا يعملون في شتى المهن، لا يكاد يوجد أجانب بشكل واضح، كانت الأجسام رشيقة نشيطة، السمنة نادرة، ثقافة العمل والتعاون سائدة، وهواية القراءة منتشرة، وعلى الأرصفة بجانب الجامع الكبير في الديرة، وفي البطحاء تُفرش كتب قيمة جدا على ريال فقط، ترد من لبنان والقاهرة وبغداد، وفيها كتب تم منعها فيما بعد حينًا من الدهر، والراديو منتشر، وثقافة الكتب أقوى من أقوى وسائل المعرفة المنتشرة الآن على شكل نتف لا تغني، الصحف يتبادلها الجيران ومجلة العربي واليمامة وطبيبك، يتم إعارة الكتب والصحف والمجلات ويدور حول محتواها نقاش، والمذاكرة صارمة مثابرة تتم غالبًا في المساجد بشبه اعتكاف، والصداقات وثيقة والناس سواسية في الحارة وقلوبهم على بعض..
نحب الماضي وذكرياته بقلوبنا ولكننا نرفض العيش فيه بعقولنا بعدما توفر لنا من وسائل الترف والحضارة ما فاق الخيال، وأفرز رغم محاسنه الكثيرة، مساوئ ظاهرة من الترف والخمول والاعتماد على الخدم في البيوت والوافدين في مختلف المهن والأمور، وساد الإسراف والتفاخر الأجوف عند كثيرين، وضعفت ثقافة العمل الجاد والقراءة العميقة، وانتشرت السمنة ومعها جيوش الشؤم من ضغط وسكر وضعف وآلام مفاصل ونحو ذلك من الأمراض التي كانت نادرة مع الرشاقة والنشاط والنوم المبكر والاقتصاد في الطعام، ونقاء البيئة والقلوب..
الترف والاستسلام له أمر سيئ العواقب على المجتمعات إذا زاد وساد، وابن خلدون يقول (الذين هلكوا في المجاعات العابرة إنما أهلكهم الشِّبع السابق لا الجوع اللاحق) وقبله قال الفاروق رضي الله عنه (اخشوشنوا فإن النّعم لا تدوم).
نقلا عن الرياض
زمان الطيبين يازينه وصفت وابدعت ايها الكاتب الفذ